فصل: تفسير الآيات رقم (108- 110)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 73‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏70‏)‏ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏71‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

ولما أيقظهم من رقدتهم، ونبههم على عظيم غفلتهم من عموم القدرة وشمول العلم، المقتضي للفعل بالاختيار، المحقق للبعث وغيره، من كل ما يريده سبحانه ببعض آياته المبثوثة في الآفاق من جماد ثم حيوان، وختم ذلك بما هو شفاء، ثنى ببعض ما في أنفسهم من الأدلة على ذلك مذكراً بمراتب عمر الإنسان الأربع، وهي سن الطفولية والنمو، ثم سن الشباب الذي يكون عند انتهائه الوقوف، ثم سن الكهولة وفيه يكون الانحطاط مع بقاء القوة، ثم سن الانحطاط مع ظهور الضعف وهو الشيخوخة، مضمناً ما لا يغني عنه دواء، حثاً على التفكر في آياته والتعقل لها قبل حلول ذلك الحادث، فيفوت الفوت، ويندموا حيث لا ينفع الندم، فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏خلقكم‏}‏ فجعلكم بعد العدم أحياء فهّماً خصّماً ‏{‏ثم يتوفاكم‏}‏ على اختلاف الأسنان، فلا يقدر الصغير على أن يؤخر، ولا الكبير على أن يقدم، فمنكم من يموت حال قوته ‏{‏ومنكم من يرد‏}‏ أي بأيسر أمر منا، لا يقدر على مخالفته بوجه ‏{‏إلى أرذل العمر‏}‏ لأنه يهرم فيصير إلى مثل حال الطفولية في الضعف مع استقذار غيره له، ولا يرجى بعده ‏{‏لكي لا يعلم‏}‏‏.‏

ولما كان مقصود السورة الدلالة على تمام القدرة وشمول العلم والتنزه عن كل شائبة نقص، وكان السياق هنا لذلك أيضاً بدليل ختم الآية، نزع الخافض للدلالة على استغراق الجهل لزمن ما بعد العلم، فيتصل بالموت، ولا ينفع فيه دواء ولا تجدي معه حيلة فقال‏:‏ ‏{‏بعد علم شيئاً‏}‏ لا يوجد في شيء من ذلك عند إحلاله شفاء، ولا يمنعه دواء‏:‏ فبادروا إلى التفكر والاعتبار قبل حلول أحد هذين، ثم علل ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏عليهم قدير *‏}‏ أي بالغ العلم شامل القدرة، فمهما أراد كان، ومهما أراد غيره ولم يرده هو، أحاط به علمه، فسبب له بقدرته ما يمنعه‏.‏

ولما ذكر المفاوتة في الأعمار المنادية بإبطال الطبائع الموجبة للمسابقة إلى الاعتبار لأولي الأبصار للخوف كل لحظة من مصيبة الموت، ثنى بالمفاوتة في الأرزاق فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏فضل بعضكم‏}‏ أيها الناس ‏{‏على بعض‏}‏‏.‏

ولما كانت وجوه التفضيل كثيرة، وكان التفضيل في المعاش الذي يظن الإنسان أن له قدرة على تحصيله، وكانت المفاوتة فيه أدل على تمام القدرة والفعل بالاختيار الذي السياق له، قال تعالى‏:‏ ‏{‏في الرزق‏}‏ أي ولربما جعل الضعيف العاجز الجاهل أغنى من القوي المحتال العالم، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، وأقبلوا بجميع قلوبكم على ما ينفعكم من الاستبصار؛ قال الإمام أبو نعيم في الحلية‏:‏ حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أحمد ثنا أحمد بن أحمد بن عمرو الخلال قال‏:‏ سمعت ابن أبي عمر يقول‏:‏ كنا عند سفيان بن عيينة فذكروا الفضل بن الربيع ودهاءه، فأنشأ سفيان يقول‏:‏

كم من قويّ قوي في تقلبه *** مهذب الرأي عنه الرزق منحرف

ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط *** كأنه من خليج البحر يغترف

وعن نوادر أبي علي القالي أنه قال‏:‏ قال أبو بكر بن الأنباري‏:‏ وحدثني أبي قال‏:‏ بعث سليمان المهلبي إلى الخليل بن أحمد بمائة ألف درهم وطالبه بصحبته فرد عليه المائة ألف، وكتب إليه هذه الأبيات‏:‏

أبلغ سليمان أني عنه في سعة *** وفي غنى غير أني لست ذا مال

سخي بنفسي أني لا أرى أحداً *** يموت هزلاً ولا يبقى على حال

فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه *** ولا يزيدك فيه حول محتال

والفقر في النفس لا في المال تعرفه *** ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال

ولما كان جعل المملوك في رتبة المالك مما يتعاظمهم في حقوقهم مع أنه في الحقيقة لا مالك ولا مُلك، فلا يدينون لذلك ولا يدانونه وإن جل الخطب وأدى إلى ذهاب الأرواح، بل من كانت أمه مملوكة حطوا رتبته وإن كان أبوه من كان، وإن كانت العبرة عندهم في النسب بالأب، وهذا هو الذي أحوج عنترة إلى قوله‏:‏

إني امرؤ من خير عبس منصباً *** شطري وأحمي سائري بالمنصل

إلى غير ذلك مما كان يعتذر به عن جهة أمه، نبههم سبحانه على ما وقعوا فيه في حقه من ذلك بسبب الإشراك مع أنه مالك الملك وملك الملوك بعد ما اجترؤوا عليه في تفضيل أنفسهم في نسبة البنات إليه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فما الذين فضلوا‏}‏ أي في الرزق ‏{‏برادّي رزقهم‏}‏ أي الذي اختصوا به ‏{‏على ما ملكت أيمانهم‏}‏ وإن جل نفعهم وتعاظم عندهم وقعهم ‏{‏فهم فيه سواء‏}‏ أي فيكون بذلك الرد المالك والمملوك سواء، فهو جواب للنفي- نقله الرمال عن ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم‏.‏

ولما وضح ذلك وضوح الشمس وظهر حتى ما به أصلاً نوع لبس، تسبب عنه الإنكار في قوله على وجه الإعراض عن خطابهم المؤذن بالمقت‏:‏ ‏{‏أفبنعمة الله‏}‏ أي الذي لا رب غيره ‏{‏يجحدون *‏}‏ في جعلهم له شركاء يضيفون إليهم بعض ما أنعم به عليهم، فيسوون بينهم وبينه في ذلك وبنعمتهم يعترفون ولها يحفظون في إنزال ما ملكت أيمانهم عنهم في المراتب والأموال‏.‏

ولما ذكر الخلق والرزق، أتبعهما الألذاذ بالتأنس بالجنس من الأزواج والأولاد وغيرهما اللازم له القيام بالمصالح فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له تمام القدرة وكمال العلم ‏{‏جعل لكم‏}‏ ولما كان الأزواج من الجنس، قال‏:‏ ‏{‏من أنفسكم‏}‏ لأن الشيء آلف لنوعه وأقرب إلى جنسه ‏{‏أزواجاً‏}‏ أي تتوالدون بها ويبكون السكون إليها سبباً لبقاء نوعكم ‏{‏وجعل لكم‏}‏ أي أيها الناس الذين يوجهون رغباتهم إلى غيره‏!‏ ‏{‏من أزواجكم بنين‏}‏ ولعله قدمهم للشرف؛ ثم عطف على ذلك ما هو أعم فقال‏:‏ ‏{‏وحفدة‏}‏ أي من البنات والبنين وأولادهم والأصهار والأختان، جمع حافد، يخفّون في أعمالكم ويسرعون في خدمكم طاعة وموالاة، لا كما يفعل الأجانب وبعض العاقين، وهذا معنى ما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما من أنه فسرهم بالخدام والأعوان، وهو الصواب لأن مادة حفد تدور على الإسراع والخفة‏.‏

حفد‏:‏ خفّ في العمل وأسرع، والحفد- محركة‏:‏ الخدم- لخفتهم، ومشي دون الخبب، والحفدة‏:‏ البنات وأولاد الأولاد أو الأصهار- لذلك، وصناع الوشي- لإسراعهم فيه وإسراع لابسه إلى لبسه منبسط النفس، والمحفد- كمجلس ومنبر‏:‏ شيء يعلف فيه الدواب- لإسراعها إليه، وكمنبر‏:‏ طرف الثوب لإسراع حركته، وقدح يكال به- لخفته، وكمجلس الأصل- لدوران الأمور عليه وإسراعها إليه، وسيف محتفد‏:‏ سريع القطع، وأحفده‏:‏ حمله على الإسراع، والفادحة‏:‏ النازلة، وفوادح الدهر- خطوبه- لإسراعها بالمكروه وإسراع المنزول به ومن يهمه شأنه إلى مدافعتها، ومن ذلك فدحه الأمر‏:‏ أثقله- لأن المكروه يسرع فيثقل فيكثر اضطراب المنزول به‏.‏

ولما ذكر ذلك سبحانه، أتبع ما لا يطيب العيش إلا به، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ورزقكم‏}‏ أي لإقامة أودكم وإصلاح أحوالكم؛ ولما كان كل النعيم إنما هو في الجنة، بعّض فقال‏:‏ ‏{‏من الطيبات‏}‏ بجعله ملائماً للطباع، شهياً للأرواح، نافعاً للإشباع، فعلم من هذا قطعاً أن صاحب هذه الأفعال، هو المختص بالجلال، ومن أنكر شيئاً من حقه فقد ضل أبعد الضلال، فكيف بمن أنكر خيره، وعبد غيره، وهو باسم العدم أحق منه باسم الوجود، فلذلك تسبب عنه قوله معرضاً عن خطابهم إعراض المغضب‏:‏ ‏{‏أفبالباطل‏}‏ أي من الأصنام وما جعلوا لهم من النصيب ‏{‏يؤمنون‏}‏ أي على سبيل التجديد والاستمرار ‏{‏وبنعمت الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏هم‏}‏ وله عليهم خاصة- غير ما يشاركون فيه الناس- من المنن ما له ‏{‏يكفرون‏}‏ حتى أنهم يجعلون مما أنعم به عليهم من السائبة والوصيلة والحامي وغيرها لأصنامهم، وذلك متضمن لكفران النعمة الكائنة منه، ومتضمن لنسبتها إلى غيره، لأنه لم يأذن لهم في شيء مما حرموه، ولا يحل التصرف في مال المالك إلا بإذنه؛ ثم قال عطفاً على ما أنكره عليهم هناك‏:‏ ‏{‏ويعبدون‏}‏ وأشار إلى سفول المراتب كلها عن رتبته سبحانه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي من غير من له الجلال والإكرام مما هو في غاية السفول من الأصنام وغيرها ‏{‏ما لا يملك‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏لهم رزقاً‏}‏ تاركين من بيده جميع الرزق، وهو ذو العلو المطلق الذي رزقهم من الطيبات؛ ثم بين جهة الرزق فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من السماوات والأرض‏}‏ ثم أكد تعميم هذا النفي بقوله- مبدلاً من ‏{‏رزقاً‏}‏، مبيناً أن تنوينه للتحقير-‏:‏ ‏{‏شيئاً‏}‏ ثم أكد حقارتهم بقوله جامعاً لأن ما عجز عند الاجتماع فهو عند الانفراد أعجز‏:‏ ‏{‏ولا يستطيعون‏}‏ أي ليس لهم نوع استطاعة أصلاً، ولك أن تجعله معطوفاً على ما مضى من المعجَّب منه من أقوالهم وأفعالهم في قوله ‏{‏ويجعلون لله ما يكرهون‏}‏ ونحوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 76‏]‏

‏{‏فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏74‏)‏ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

ولما دحض بهذه الحجة جميع ما أقاموه من الشبه وضربوه من الأمثال فيما ارتكبوه من قولهم إن الملك لا يتوصل إليه إلا بأعوان من حاجب ونائب ونحو ذلك، ولا يتوصل إليه إلا بأنواع القربان، فعبدوا الأصنام، وفعلوا لها ما يفعل له تشبيهاً به عز شأنه، وتعالى سلطانه، لأن الفرق أن ملوك الدنيا المقيس عليهم إنما أقاموا مَن ذكر لحاجتهم وضعف مُلكهم ومِلكهم، فحالهم مخالف لوصف من لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يشغله شأن عن شأن، وكل شيء في قبضته وتحت قهره وعظمته، فلذلك تسبب عنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تضربوا لله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏الأمثال‏}‏ أي فتشبهوه تشبيهاً بغيره وإن ضرب لكم هو الأمثال؛ قال أبو حيان وغيره‏:‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أي لا تشبهوه بخلقه- انتهى‏.‏ وهو- كما قال في الكشاف- تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به، لأن من يضرب الأمثال مشبه حالاً بحال وقصة بقصة- انتهى‏.‏ وهذا النهي عام في كل مثل لخطر الأمر خشية أن يكون ذلك المثل غير لائق بمقداره، وقد تقرر أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، لا سيما في هذا لأن الخطأ فيه كفر، ويدل على ذلك تعليل الحكم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ولا أمر لغيره ‏{‏يعلم‏}‏ أي له جميع صفة العلم، فإذا ضرب مثلاً أتقنه بإحاطة علمه بحيث لا يقدر غيره أن يبدي فرقاً ما بين الممثل والممثل به في الأمر الممثل له ‏{‏وأنتم لا تعلمون *‏}‏ أي ليس لكم علم أصلاً، فلذلك تعمون عن الشمس وتلبّس عليكم ما ليس فيه لبس، وهذا المقام عال ومسلكه وعر، وسالكه على غاية من الخطر‏.‏

ولما ختم سبحانه بذلك تأكيداً لإبطال مذهب عبدة الأصنام بسلب العلم الذي هو مناط السداد عنهم، حسن أن يصل به قوله- إقامة للدليل على علمه بأن أمثاله لا يتطرق إليها الطعن، ولا يتوجه نحوها الشكوك-‏:‏ ‏{‏ضرب الله‏}‏ أي الذي له كمال العلم وتمام القدرة ‏{‏مثلاً‏}‏ بالأحرار والعبيد له ولما عبدتموه معه؛ ثم أبدل من مثلاً‏:‏ ‏{‏عبداً‏}‏ ولما كان العبد يطلق على الحر بالنسبة إلى الله تعالى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مملوكاً‏}‏ لا مكاتباً ولا فيه شائبة للحرية ‏{‏ولا يقدر على شيء‏}‏ بإذن سيده ولا غيره، وهذا مثل شركائهم، ثم عطف على «عبداً» قوله‏:‏ ‏{‏ومن رزقناه منا‏}‏ من الأحرار ‏{‏رزقاً حسناً‏}‏ واسعاً طيباً ‏{‏فهو ينفق منه‏}‏ دائماً، وهو معنى ‏{‏سراً وجهراً‏}‏ وهذا مثل الإله وله المثل الأعلى؛ ثم بكتهم إنكاراً عليهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل يستوون‏}‏ أي هذان الفريقان الممثل بهما، لأن المراد الجنس، فإذا كان لا يسوغ في عقل أن يسوي بين مخلوقين‏:‏ أحدهما حر مقتدر والآخر مملوك عاجز، فكيف يسوي بين حجر موات أو غيره وبين الله الذي له القدرة التامة على كل شيء‏؟‏

ولما كان الجواب قطعاً‏:‏ لا، وعلم أن الفاضل ما كان مثالاً له سبحانه، على أن من سوى بينهما أو فعل ما يؤول إلى التسوية أجهل الجهلة‏.‏

فثبت مضمون ‏{‏إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏ وأن غيره تعالى لا يساوي شيئاً، فثبت بلا ريب أنه المختص بالمثل الأعلى، فعبر عن ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد لله‏}‏ أي له الإحاطة بالعلم وجميع صفات الكمال التي منها اختصاصه بالشكر، لكونه هو المنعم وليس لغيره إحاطة بشيء من ذلك ولا غيره، فكأنهم قالوا‏:‏ نحن نعلم ذلك، فقيل‏:‏ ‏{‏بل أكثرهم‏}‏ أي في الظاهر والباطن- بما أشار إليه الإضمار ‏{‏لا يعلمون *‏}‏ لكونهم يسوون به غيره، ومن نفى عنه العلم- الذي هو أعلى صفات الكمال- كان في عداد الأنعام، فهم لذلك يشبهون به ما ذكر، ويضربون الأمثال الباطلة، ويضيفون نعمه إلى ما لا يعد، ولعله أتى بضمير الغيبة لقصر ذلك على من ختم بموته على الضلال، أو يقال وهو أرشق‏:‏ لما كان الجواب قطعاً‏:‏ لا يستووت والفاضل مثالك، فقد علم كل ذي لب أن لك المثل الأعلى، فترجم عن وصفه بقوله «الحمد لله» أي الإحاطة بصفات الكمال للملك الأعظم، وعن نسبتهم إلى علم ذلك بقوله تعالى ‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏ أي ليس لهم علم بشيء أصلاً، لأنهم يعملون في هذا بالجهل، فنسبتهم إلى الغباوة أحسن في حقهم من نسسبتهم إلى الضلال على علم، وسيأتي في سورة لقمان إن شاء الله تعالى ما يكون نافعاً في هذا المقام، وإنما فسرت الحمد بما تقدم لأنه قد مضى في سورة الفاتحة أن مادة «حمد» تدور على بلوغ الغاية، ويلزم منه الاتساع والإحاطة والاستدارة، فيلزمها مطأطأة الرأس وقد يلزم الغاية الرضى فيلزمه الشكر، وبيانه أن الحمد بمعنى الرضا والشكر لأنهما يكونان غالباً من غاية الإحسان، ويرجع إلى ذلك الحمد بمعنى الجزاء وقضاء الحق، وحماداك- بالضم، أي غايتك، ويوم محتمد‏:‏ شديد الحر، وحمد النار- محركة‏:‏ صوت التهابها، وأما يتحمد عليّ- بمعنى يمتن- فأصله‏:‏ يذكر ما يلزم منه حمده، ومنه المدح‏:‏ وهو حسن الثناء، وتمدح بمعنى تكلف أن يمدح وافتخر وتشبع بما ليس عنده، فإنه في كل ذلك بذل جهده، ودحمه- كمنع‏:‏ دفعه شديداً، والمرأة‏:‏ نكحها- لما في ذلك من بلوغ الغاية في الشهوة وما يلزمها من الدفع ونحوه، والدحم- بالكسر‏:‏ الأصل- لأنه غاية الشيء الذي ينتهي إليه، وحدم النار- ويحرك‏:‏ شدة احتراقها وحميها، واحتدم الدم‏:‏ اشتدت حمرته حتى يسود، والحدمة- محركة‏:‏ النار- لأنها غاية الحر، والحدمة أيضاً‏:‏ صوتها- لدلالته على قوة التهابها، ومن ذلك الحدمة أيضاً لصوت جوف الحية، أو صوت في الجوف كأنه تغيظ- لأنه يدل على غاية التهاب الباطن، والحدمة- كفرحة‏:‏ السريعة الغلي من القدور؛ ومن الاتساع‏:‏ تمدحت الأرض أي اتسعت؛ ومن الاستدارة‏:‏ الداحوم لحبالة الثعلب- لأنها بلغت الغاية من مراد الصائد، ولأنه لما لم يقدر على الخلاص منها كانت كأنها قد أحاطت به، والدمحمح‏:‏ المستدير الململم، ودمح تدميحاً‏:‏ طأطأ رأسه- لأن الانعطاف مبدأ الاستدارة- والله سبحانه وتعالى الموفق‏.‏

ولما انقضى هذا المثل كافياً في المراد، ملزماً لهم لاعترافهم بأن الأصنام عبيد الله في قولهم «لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، وكان ربما كابر مكابر فقال‏:‏ إنهم ليسوا ملكاً له، أتبعه مثلاً آخر لا تمكن المكابرة فيه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وضرب الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة أيضاً ‏{‏مثلاً‏}‏ ثم أبدل منه ‏{‏رجلين‏}‏ ثم استأنف البيان لما أجمل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أحدهما أبكم‏}‏ أي ولد أخرس؛ ثم ترجم بكمته التي أريد بها أنه لا يَفهم ولا يُفهِم بقوله‏:‏ ‏{‏لا يقدر على شيء‏}‏ أي أصلاً ‏{‏وهو كل‏}‏ أي ثقل وعيال، والأصل فيه الغلظ الذي يمنع من النفوذ، كلت السكين كلولاً- إذا غلظت شفرتها فلم تقطع، وكل لسانه- إذا لم ينبعث في القول، لغلظه وذهاب حده- قاله الرماني ‏{‏على مولاه‏}‏ الذي يلي أمره؛ ثم بين ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أينما يوجهه‏}‏ أي يرسله ويصرفه ذلك المولى ‏{‏لا يأت بخير‏}‏ وهذا مثل شركائهم الذين هم عيال ووبال على عبدتهم‏.‏

ولما انكشف ضلالهم في تسويتهم الأنداد- الذين لا قدرة لهم على شيء ما- بالله الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلماً، حسن كل الحسن توبيخهم والإنكار عليهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل يستوي هو‏}‏ أي هذا المذكور ‏{‏ومن‏}‏ أي ورجل آخر على ضد صفته، فهو عالم فطن قوي خبير مبارك الأمر ميمون النقيبة ‏{‏يأمر‏}‏ بما له من العلم والقدرة ‏{‏بالعدل‏}‏ أي ببذل النصيحة لغيره ‏{‏وهو‏}‏ في نفسه ظاهراً وباطناً ‏{‏على صراط‏}‏ أي طريق واضح واسع ‏{‏مستقيم‏}‏ أي عامل بما يأمر به، وهذا مثال للمعبود بالحق الذي يكفي عابده جميع المؤن، وهو دال على كمال علمه وتمام قدرته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 79‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏77‏)‏ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

ولما تم هذان المثلان، الدالان على تمام علمه وشمول قدرته، والقاضيان بأن غيره عدم، عطف على قوله ‏{‏إن الله يعلم‏}‏ قوله مصرحاً بتمام علمه وشمول قدرته‏:‏ ‏{‏ولله‏}‏ أي هذا علم الله في المشاهدات الذي علم من هذه الأدلة أنه مختص به، ولذي الجلال والإكرام وحده ‏{‏غيب السماوات والأرض‏}‏ كما أن له وحده شهادتهما، فما أراد من ذلك كانت قدرته عليه كقدرته على الشهادة من الساعة التي تنكرونها استعظاماً لها، ومن غيرهما بما فصله لكم من أول السورة إلى هنا من خلق السماوات والأرض وما فيهما ‏{‏وما أمر الساعة‏}‏ وهي الوقت الذي يكون فيه البعث، على اعتقادكم أنها لا تكون استبعاداً لها واستصعاباً لأمرها في سرعته عند الناس لو رأوه، ولذا عبر عنه بالساعة ‏{‏إلا كلمح البصر‏}‏ أي كرجع الطرف المنسوب إلى البصر أيّ بصر كان ‏{‏أو هو أقرب‏}‏ وإذا الخلق قد قاموا من قبورهم مهطعين إلى الداعي- هذا بالنسبة إلى علمهم وقياسهم، وأما بالنسبة إليه سبحانه فأمره في الجلالة والعظم والسرعة والإتقان يجل عن الوصف، وتقصر عنه العقول، ولا شك فيه ولا تردد، ولذلك علله بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏على كل شيء‏}‏ أي ممكن ‏{‏قدير *‏}‏‏.‏

ولما انقضى توبيخهم على إيمانهم بالباطل وكفرانهم بالحق وما استتبعه، وختم بأمر الساعة، عطف على قوله تعالى ‏{‏والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً‏}‏ ما هو من أدلة الساعة وكمال القدرة والفعل بالاختيار من النشأة الأولى، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له العظمة كلها ‏{‏أخرجكم‏}‏ بعلمه وقدرته ‏{‏من بطون أمهاتكم‏}‏ والذي أخرجكم منها قادر على إخراجكم من بطن الأرض بلا فرق بل بطريق الأولى، حال كونكم عند الإخراج ‏{‏لا تعلمون شيئاً‏}‏ من الأشياء قل أو جل، وعطف على ‏{‏أخرجكم‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏وجعل لكم‏}‏ بذلك أيضاً ‏{‏السمع والأبصار والأفئدة‏}‏ آلات لإزالة الجهل الذي وقعت الولادة عليه، وفتق مواضعها وسواها وعدلها وأنتم في البطون حيث لا تصل إليه يده، ولا يتمكن من شق شيء منه بآلة، فالذي قدر على ذلك في البطون إبداعاً قادر على إعادته في بطن الأرض، بل بطريق الأولى، ولعله جمعهما دون السمع، لأن التفاوت فيهما أكثر من التفاوت فيه بما لا يعلمه إلا الله؛ والأفئدة هي القلوب التي هيأها للفهم وإصلاح البدن بما أودعها من الحرارة اللطيفة القابلة للمعاني الدقيقة ‏{‏لعلكم تشكرون *‏}‏ أي لتصيروا- بمعارف القلوب التي وهبكموها إذا سمعتم المواعظ وأبصرتم الآيات- في حال يرجى فيها شكركم لما أفاض عليكم من لطائف صنعه، بأن تعرفوا ما له من العلم والقدرة وحسن التعرف، فتعترفوا له بجميع ما أتتكم به رسله، وأهمه الذي تبنى عليه جميع مقاصد الأصول أو المنعم عليكم بهذه النعم إله واحد عالم بكل شيء قادر على كل شيء فاعل بالاختيار، وأن الطبائع من جملة مقدوراته، لا فعل لها إلا بتصريفه‏.‏

ولما كان المقصود من تعداد هذه النعم الإعلام بأنه الفاعل بالاختيار وحده لا الطبائع ولا غيرها، دلهم على ذلك مضموناً إلى ما مضى بقوله مقرراً لهم‏:‏ ‏{‏ألم يروا‏}‏ بالخطاب والغيبة- على اختلاف القراءتين لأن سياق الكلام وسباقه يحتمل المقبل والمعرض بخلاف سياق الملك فإنه للمعرض فقط، فلذا اختلف القراء هنا وأجمعوا هناك ‏{‏إلى الطير مسخرات‏}‏ أي مذللات للطيران بما أقامهن الله فيه من المصالح والحكم بالطيران وغيره ‏{‏في جو السماء‏}‏ في الهواء بين الخافقين بما لا تقدرون عليه بوجه من الوجوه مع مشاركتكم لها في السمع والبصر وزيادتكم عليها بالعقول، فعلم قطعاً ما وصل بذلك من قوله‏:‏ ‏{‏ما يمسكهن‏}‏ أي في الجو عن الوقوع‏.‏

ولما كان للسياق هنا مدخل عظيم في الرد على أهل الطبائع وهم الفلاسفة، ولهم وقع عظيم في قلوب الناس، عبر بالاسم الأعظم، إشارة إلى أنه لا يقوى على رد شبههم إلا من أحاط علماً بمعاني الأسماء الحسنى، فكان متمكناً من علم أصول الدين فقال‏:‏ ‏{‏إلا الله‏}‏ أي الملك الأعظم، لأن نسبتكم وإياها إلى الطبيعة واحدة، فلو كان ذلك فعلها لا ستويتم؛ ثم نبههم على ما في ذلك من الحكم بقوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم من إخراجكم على تلك الهيئة، والإنعام عليكم بما ليس لها، وتقديرها على ما لم تقدروا عليه مع نقصها عنكم ‏{‏لآيات‏}‏ ولما كان من لم ينتفع بالشيء كأنه لم يملكه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقوم يؤمنون *‏}‏ أي هيأهم الفاعل المختار للإيمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 81‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏80‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

ولما ذكرهم سبحانه بنعمة الإدراك بعد ابتداء الخلق، وأتبعه ما منّ به على الطير من الارتفاع الحامي لها من الحر، أتبعه ما يسكنون إليه فيظلهم ويجمعهم لأنه أهم الأشياء للحيوان، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الحكمة البالغة والقدرة الشاملة ‏{‏جعل لكم‏}‏ أي أيها الغافلون ‏{‏من بيوتكم‏}‏ أصل البيت المأوى ليلاً ثم اتسع فيه ‏{‏سكناً‏}‏ هو مصدر بمعنى مفعول، ولم يسلط عليكم فيها الحشرات والوحوش كما سلطكم عليهم؛ ثم أتبع ما يخص الحضر ما يصلح له وللسفر بما ميزهم به عن الطير وغيرها من سائر الحيوانات، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل لكم‏}‏ أي إنعاماً عليكم ‏{‏من جلود الأنعام‏}‏ التي سلطكم عليها‏.‏

ولما كانت الخيام، التي من جلود الأنعام، في ظلها الظليل تقارب بيوت القرى، جمعها جمعاً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏بيوتاً‏}‏ فإنهم قالوا‏:‏ إن هذا الجمع بالمسكن أخص، والأبيات بالشعر أخص ‏{‏تستخفونها‏}‏ أي تطالبون بالاصطناع خفها فتجدونها كذلك ‏{‏يوم ظعنكم‏}‏ أي وقت ارتحالكم، وعبر به لأنه في النهار أكثر ‏{‏ويوم إقامتكم‏}‏ ثم أتبعه ما به كمال السكن فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أصوافها‏}‏ أي الضأن منها ‏{‏وأوبارها‏}‏ وهي للإبل كالصوف للغنم ‏{‏وأشعارها‏}‏ وهي ما كان من المعز ونحوه من المساكن والملابس والمفارش والأخبية وغيرها ‏{‏أثاثاً‏}‏ أي متاعاً من متاع البيت كثيراً، من قولهم‏:‏ شهر أثيث أي كثير، وأث النبت‏.‏ إذا كثر ‏{‏ومتاعاً‏}‏ تتمتعون به ‏{‏إلى حين *‏}‏ أي وقت غير معين بحسب كل إنسان في فقد ذلك، وأعرض عن ذكر الحرير والكتان والقطن لأنها لم تكن من صناعتهم، وإشارة إلى الاقتصاد وعدم الإسراف‏.‏

ولما ذكر ما يخصهم، أتبعه ما يشاركون فيه سائر الحيوانات فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام ‏{‏جعل لكم‏}‏ أي من غير حاجة منه سبحانه ‏{‏مما خلق ظلالاً‏}‏ من الأشجار والجبال وغيرها ‏{‏وجعل لكم‏}‏ أي مع غناه المطلق ‏{‏من الجبال أكناناً‏}‏ جمع كن وهو ما يستكن به- أي يستتر- من الكهوف ونحوها، ولو كان الخالق غير مختار لكانت على سنن واحد لا ظلال ولا أكنان؛ ثم أتبع ذلك ما هداهم إليه عوضاً مما جعله لسائر الحيوان فقال‏:‏ ‏{‏وجعل لكم‏}‏ أي مَنّاً منه عليكم ‏{‏سرابيل‏}‏ أي ثياباً ‏{‏تقيكم الحر‏}‏ وهي كل ما لبس من قميص وغيره- كما قال الزجاج‏.‏

ولما كانت السرابيل نوعاً واحداً، لم يكرر «جعل» فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وسرابيل‏}‏ أي دروعاً ومغافر وغيرها ‏{‏تقيكم بأسكم‏}‏ أضافه إليهم إفهاماً لأنه الحرب، وذلك كما جعل لبقية الحيوان- من الأصواف ونحوها والأنياب والأظفار ونحوها- ما هو نحو ذلك يمنع من الحر والبرد، ومن سلاح العدو، ولم يذكر سبحانه هنا وقاية البرد لتقدمها في قوله تعالى ‏{‏لكم فيها دفء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ولما تم ذلك كان كأنه قيل‏:‏ نبهنا سبحانه بهذا الكلام على تمام نعمة الإيجاد، فهل بعدها من نعمة‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏!‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي كما أتم نعمة الإيجاد عليكم هذا الإتمام العظيم بهذه الأمور ونبهكم عليها ‏{‏يتم نعمته عليكم‏}‏ في الدنيا والدين بالهداية والبيان لطريق النجاة والمنافع، والتنبيه على دقائق ذلك بعد جلائله ‏{‏لعلكم تسلمون *‏}‏ أي ليكون حالكم- بما ترون من كثرة إحسانه بما لا يقدر عليه غيره مع وضوح الأمر- حال من يرجى منه إسلام قياده لربه، فلا يسكن ولا يتحرك إلا في طاعته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 89‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏82‏)‏ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏83‏)‏ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏84‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏86‏)‏ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏87‏)‏ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ‏(‏88‏)‏ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

فلما صار هذا البيان، إلى أجلى من العيان، كان ربما وقع في الوهم أنهم إن لم يجيبوا لِحقَ الداعي بسبب إعراضهم حرج، فقال تعالى نافياً لذلك معرضاً عنهم بإعراض المغضب، مقبلاً عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إقبال المسلي، معبراً بصيغة التفعل المفهمة لأن الفطر الأولى داعية إلى الإقبال على الله فلا يعرض صاحبها عما يرضيه سبحانه إلا بنوع معالجة‏:‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ أي كلفوا أنفسهم الإعراض ومتابعة الأهواء فلا تقصير عليك بسبب توليهم ولا حرج ‏{‏فإنما‏}‏ أي بسبب أنه إنما ‏{‏عليك البلاغ المبين *‏}‏ وليس عليك أن تردهم عن العناد، فكأنه قيل‏:‏ فهل كان إعراضهم عن جهل أو عناد‏؟‏ فقيل فيهم وفيهم‏:‏ ‏{‏يعرفون‏}‏ أي كلهم ‏{‏نعمت الله‏}‏ أي الملك الأعظم، التي تقدم عد بعضها في هذه السورة وغيرها ‏{‏ثم ينكرونها‏}‏ بعبادتهم غير المنعم بها أو بتكذيب الآتي بالتنبيه عليها، بعضهم لضعف معرفته، وبعضهم عناداً، وكان بعضهم يقول‏:‏ هي من الله ولكن بشفاعة آلهتنا ‏{‏وأكثرهم‏}‏ أي المدعوين بالنسبة إلى جميع أهل الأرض الذين أدركتهم دعوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ‏{‏الكافرون *‏}‏ أي المعاندون الراسخون في الكفر‏.‏

ولما كان من أجل المقاصد بهذه الأساليب التخويف من البعث، وكان من المعلوم أنه ليس بعد الإعراض عن البيان والإصرار على كفران المعروف من الإحسان إلا المجازاة لأن الحكيم يمهل ولا يهمل، قال تعالى‏:‏ عاطفاً على ثمرة ‏{‏فإنما عليك البلاغ المبين‏}‏ وهي‏:‏ فبلغهم وبين لهم ولا تيأس من رجوعهم‏:‏ ‏{‏ويوم‏}‏ أي وخوفهم يوم ‏{‏نبعث‏}‏ بعد البعث ‏{‏من كل أمة شهيداً‏}‏ يحكم بقوله الملك إجراء للأمر على ما يتعارفون وإن كان غنياً عن شهيد‏.‏

ولما كان الإذن لهم في الاعتذار في بعض المواقف الطويلة في ذلك اليوم متعذراً، عبر عنه سبحانه بأداة البعد فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لا يؤذن‏}‏ أي لا يقع إذن على تقدير من التقادير ‏{‏للذين كفروا‏}‏ أي بعد شهادة الشهداء في الاعتذار كما يؤذن في هذه الدار للمشهود عليه عند السؤال في الإعذار، لأنه لا عذر هناك في الحقيقة ‏{‏ولا هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏يستعتبون *‏}‏ أي ولا يطلب منهم الإعتاب المؤثر للرضى وهو إزالة العتب وهو الموجدة المعبر بها عن الغضب المعبر به عن آثاره من السطوة والانتقام، وأخذ العذاب لأهل الإجرام من قبيح ما ارتكبوا، لأن تلك الدار ليست بدار تكليف؛ ثم وصل به أن ما يوجبه الغضب يدوم عليهم في ذلك اليوم، فقال تعالى عاطفاً على ما بعد «ثم»‏:‏ ‏{‏وإذا رءا‏}‏ وأظهر موضع الإضمار تعميماً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ظلموا‏}‏ فعبر بالوصف الموجب للعذاب ‏{‏العذاب‏}‏ بعد الموقف وشهادة الشهداء، وجزاء الشرط محذوف لدلالة ما قرن بالفاعلية تقديره‏:‏ لابسهم ‏{‏فلا يخفف‏}‏ أي يحصل تخفيف بنوع من الأنواع ولا بأحد من الخلق ‏{‏عنهم‏}‏ شيء منه ‏{‏ولا هم ينظرون *‏}‏ بالتأخير ولا لحظة بوجه من الوجوه على تقدير من التقادير من أحد ما‏.‏

ولما بين سبحانه حاصل أمرهم في البعث وما بعده، وما من أهم المهم أمرهم في الموقف مع شركائهم الذين كانوا يترجونهم، عطف على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رءا‏}‏ أي بالعين يوم القيامة ‏{‏الذين أشركوا‏}‏ فأظهر أيضاً الوصف المناسب للمقام ‏{‏شركاءهم‏}‏ أي الآلهة التي كانوا يدعونها شركاء ‏{‏قالوا ربنا‏}‏ يا من أحسن إلينا وربانا‏!‏ ‏{‏هؤلاء شركاؤنا‏}‏ أضافوهم إلى أنفسهم لأنه لا حقيقة لشركتهم سوى تسميتهم لها الموجب لضرهم؛ ثم بينوا المراد بقولهم‏:‏ ‏{‏الذين كنا ندعوا‏}‏ أي نعبد‏.‏

ولما كانت المراتب متكثرة دون رتبته سبحانه لأن علوه غير منحصر، أدخل الجار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من دونك‏}‏ ليقربونا إليك، فأكرمنا لأجلهم جرياً على منهاجهم في الدنيا في الجهل والغباوة، فخاف الشركاء من عواقب هذا القول والإقرار عليه سطوات الغضب ‏{‏فألقوا‏}‏ أي الشركاء ‏{‏إليهم‏}‏ أي المشركين ‏{‏القول‏}‏ أي بادروا به حتى كان إسراعه إليهم إسراع شيء ثقيل يلقى من علو؛ وأكدوا قولهم لأنه مطاعنة لقول المشركين فقالوا‏:‏ ‏{‏إنكم لكاذبون *‏}‏ في جعلنا شركاء وأنا نستحق العبادة أو نشفع أو يكون لنا أمر نستحق به أن نذكر ‏{‏وألقوا‏}‏ أي الشركاء ‏{‏إلى الله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏يومئذ‏}‏ أي يوم القيامة إذ نبعث من كل أمة شهيداً ‏{‏السلم‏}‏ أي الانقياد والاستسلام بما علم به الكفار أنهم من جملة العبيد لا أمر لهم أصلاً، فأصلد زندهم، وخاب قصدهم، وقيد بذلك اليوم لأنهم كانوا في الدنيا- بتزيين الشياطين لأمورهم ونطقهم على ألسنتهم- بحيث يظن عابدوهم أن لهم منعة، وبهم قوة ويجوز أن يكون ضمير «ألقوا» للمشركين ‏{‏وضل عنهم‏}‏ أي عن الكفار ‏{‏ما كانوا‏}‏ أي بجبلاتهم ‏{‏يفترون *‏}‏ أي يتعمدون من دعوى النفع لهم والضر كذباً وفجوراً، فكأنه قيل‏:‏ هذا للذين أشركوا، فما للذين كانوا دعاة إلى الشرك مانعين من الانتقال عنه‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ أي أوجدوا الكفر في أنفسهم ‏{‏وصدوا‏}‏ مع ذلك غيرهم ‏{‏عن سبيل الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة كلها ‏{‏زدناهم‏}‏ أي بما لنا من العظمة، بصدهم غيرهم ‏{‏عذاباً فوق العذاب‏}‏ الذي استحقوه على مطلق الشرك ‏{‏بما كانوا‏}‏ أي كوناً جبلياً ‏{‏يفسدون *‏}‏ أي يوقعون الفساد ويجددونه؛ ثم كرر التحذير من ذلك اليوم على وجه يزيد على ما أفهمته الآية السالفة، وهو أن الشهادة تقع على الأمم لا لهم، وتكون بحضرتهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم‏}‏ أي وخوفهم يوم ‏{‏نبعث‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏في كل أمة‏}‏ من الأمم ‏{‏شهيداً‏}‏ أي هو في أعلى رتب الشهادة ‏{‏عليهم‏}‏‏.‏

ولما كانت بعثة الأنبياء السابقين عليهم السلام خاصة بقومهم إلا قليلاً، قال‏:‏ ‏{‏من أنفسهم‏}‏ وهو نبيهم‏.‏

ولما كان لذلك اليوم من التحقق ما لا شبهة فيه بوجه وكذا شهادة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عبر بالماضي إشارة إلى ذلك، وإلى أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يزل من حين بعثه متصفاً بهذه الصفة العلية فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وجئنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏بك شهيداً‏}‏ أي شهادة هي مناسبة لعظمتنا ‏{‏على هؤلاء‏}‏ أي الذين بعثناك إليهم وهم أهل الأرض، وأكثرهم ليس من وقوعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك لم يقيد بعثته بشيء؛ ثم بين أنه لا إعذار في شهدائه فإنه لا حجة في ذلك اليوم لمن خالف أمره اليوم، لأنه سبحانه أزاح العلل، وترك الأمر على بيضاء نقية ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فقال عاطفاً على قوله ‏{‏وما أنزلنا عليك الكتاب‏}‏- الآية، المتعقب لقوله ‏{‏لا جرم‏}‏- الآيتين‏:‏ ‏{‏ونزلنا‏}‏ أي بعظمتنا بحسب التدريج والتنجيم ‏{‏عليك الكتاب‏}‏ الجامع للهدى ‏{‏تبياناً‏}‏ أي لأجل البيان التام، قالوا‏:‏ وهو اسم وليس بمصدر كتلقاء ‏{‏لكل شيء‏}‏ ورد عليك من أسئلتهم ووقائعهم وغير ذلك، وهو في أعلى طبقات البيان كما أنه في أعلى طبقات البلاغة، لأن المعنى به أسرع إلى الأفهام وأظهر، في الإدراك، والنفس أشد تقبلاً له لما هو عليه من حسن النظام والقرب إلى الافهام، وإنما احتيج إلى تفسيره مع أنه في نهاية البيان لتقصير الإنسان في العلم بمذاهب العرب الذين هم الأصل في هذا اللسان، وتقصير العرب عن جميع مقاصده كما قصروا عن درجته في البلاغة، فرجعت الحاجة إلى تقصير الفهم لا إلى تقصير الكلام في البيان، ولهذا تفاوت الناس في فهمه لتفاوتهم في درجات البلاغة ومعرفة طرق العرب في جميع أساليبها؛ قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في آخر خطبة الرسالة بعد أن دعا الله تعالى أن يرزقه فهماً في كتابه ثم في سنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، واحتج بآيات منها هذه، وذلك لأنه سبحانه بين فيه التوحيد والمبدأ والمعاد والأمر والنهي والحلال والحرام والحدود والأحكام بالنص على بعضها، وبالإحالة على السنة في الآخر، وعلى الإجماع في نحو قوله تعالى ‏{‏ويتبع غير سبيل المؤمنين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 115‏]‏ وعلى الاقتداء بالخلفاء الراشدين في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» وبالاقتداء بجميع أصحابه رضي الله عنهم في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤوا طرق القياس والاجتهاد ولم يخرج أحد منهم عن الكتاب والسنة، فهو من دلائل النبوة في كونه صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهيداً لكونه ما أخبر عنهم إلا بما هم أهله‏.‏

ولما كان لتبيان قد يكون للضلال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهدى‏}‏ أي موصلاً إلى المقصود‏.‏ ولما كان ذلك قد لا يكون على سبيل الإكرام، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ورحمة‏}‏ ولما كان الإكرام قد لا يكون بما هو في أعلى طبقات السرور، قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وبشرى‏}‏ أي بشارة عظيمة جداً ‏{‏للمسلمين‏}‏ ويجوز أن يكون التقدير ‏{‏في كل أمة شهيداً عليهم‏}‏ وهو رسولهم الذي أرسلناه إليهم في الدنيا ‏{‏وجئنا بك شهيداً على هؤلاء‏}‏ لكوننا أرسلناك إليهم وجعلناك أميناً عليهم ‏{‏ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء‏}‏ فلا عذر لهم، فيكون معطوفاً على ما دل الكلام السابق دلالة واضحة على تقديره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 92‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏90‏)‏ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏91‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

ولما بين تعالى فضل هذا القرآن بما يقطع حجتهم، وكان قد قدم فضل من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، أخذ يبين اتصاف القرآن ببيان كل شيء، وتضمنه لذلك الطريق الأقوم، فقال تعالى جامعاً لما يتصل بالتكاليف فرضاً ونفلاً، وما يتصل بالأخلاق والآداب عموماً وخصوصاً‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الملك المستجمع لصفات الكمال ‏{‏يأمر بالعدل‏}‏ وهو الإنصاف الذي لا يقبل عمل يدونه، وأول درجاته التوحيد الذي بنيت السورة عليه، والعدل يعتبر تارة في المعنى فيراد به هيئة في الإنسان تطلب بها المساواة، وتارة في العقل فيراد به التقسيط القائم على الاستواء، وتارة يقال‏:‏ هو الفضل كله من حيث إنه لا يخرج شيء من الفضائل عنه، وتارة يقال‏:‏ هو أكمل الفضائل من حيث إن صاحبه يقدر على استعماله في نفسه وفي غيره، وهو ميزان الله المبرأ من كل زلة وبه يستتب أمر العالم، وبه قامت السماوات والأرض، وهو وسط كل أطرافه جور، وبالجملة الشرع مجمع العدل، وبه تعرف حقائقه، ومن استقام على نهج الحق فقد استتب على منهج العدل- ذكره الرازي في اللوامع وفيه تلخيص، وفي آخر الجزء الخامس عشر من الثقفيات أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال لمحمد بن كعب القرظي رضي الله عنه‏:‏ صف لي العدل، فقال‏:‏ كن لصغير الناس أباً، ولكبيرهم ابناً، وللمثل أخاً، وللنساء كذلك، وعاقب الناس بقدر ذنوبهم على قدر أجسامهم، ولا تضربن لغضبك سوطاً واحداً فتعدَّى فتكون من العادين انتهى‏.‏ ‏{‏والإحسان‏}‏ وهو فعل الطاعة على أعلى الوجوه، فالعدل فرض، والإحسان فضل، وهو مجاوزة النصفة إلى التحامل على النفس، لأنه ربما وقع في الفرض نقص فجبر بالنفل، وهو في التوحيد الارتقاء عن أول الدرجات، ومن أعلاه الغنى عن الأكوان، وتكون الأكوان في غيبتها عند انبساط نور الحق كالنجوم في انطماسها عند انتشار نور الشمس، وغايته الفناء حتى عن هذا الغنى، وشهود الله وحده، وهو التوحيد على الحقيقة كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وهو روح الإنسانية، ففي الجزء الثامن من الثقفيات عن عاصم بن كليب الجرمي قال‏:‏‏:‏ «حدثني أبي كليب أنه شهد مع أبيه جنازة شهدها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال‏:‏ وأنا غلام أعقل وأفهم، قال‏:‏ فانتهى بالجنازة إلى القبر ولما يمكن لها فجعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولسوّ ذا أو خذ ذا‏!‏ قال‏:‏ حتى ظن الناس أنها سنة، فالتفت إليهم فقال‏:‏ أن هذا لا ينفع الميت ولا يضره، ولكن الله تعالى يحب من العامل إذا عمل أن يحسن»

‏{‏وإيتاء ذي القربى‏}‏ فإنه من الإحسان، وهو أولى الناس بالبر، وذلك جامع للاحسان في صلة الرحم‏.‏

ولما أمر بالمكارم، نهى عن المساوئ والملائم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وينهى عن الفحشاء‏}‏ وهي ما اشتد تقصيره عن العدل فكان ضد الإحسان ‏{‏والمنكر‏}‏ وهو ما قصر عن العدل في الجملة ‏{‏والبغي‏}‏ وهو الاستعلاء على الغير ظلماً، وقال البيضاوي في سورة الشورى‏:‏ هو طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتجزأ كمية أو كيفية‏.‏ وهو من المنكر، صرح به اهتماماً، وهو أخو قطيعة الرحم ومشارك لها في تعجيل العقوبة «ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه العقوبة مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي بكرة رضي الله عنه ورفعه، وأصل البغي الإدارة، كأنه صار بفهم هذا المعنى المحظور- المحذور عند حذف مفعوله، لأن الإنسان- لكونه مجبولاً على النقصان- لا يكاد يصلح منه إرادة، فعليه أن يكون مسلوب الاختيار، مع الملك الجبار، الواحد القهار، فتكون إرادته تابعة لإرادته، واختياره من وراء طاعته، وعن الحسن أن الخلقين الأولين ما تركا طاعة إلا جمعاها والأخيرين ما تركا معصية إلا جمعاها‏.‏

ولما دعا هذا الكلام على وجازته إلى أمهات الفضائل لي هي العلم والعدل والعفة والشجاعة، وزاد من الحسن ما شاء، فإن الإحسان من ثمرات العفة، والنهي عن البغي الذي هو من ثمرات الشجاعة المذمومة إذن فيما سواه منها، ولا يقوم شيء من ذلك إلا بالعلم وكان هذا أبلغ وعظ، نبه عليه سبحانه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعظكم‏}‏ أي يأمركم بما يرقق قلوبكم من مصاحبة ثلاثة ومجانبة ثلاثة ‏{‏لعلكم تذكرون *‏}‏ أي ليكون حالكم حال من يرجى تذكره، لما في ذلك من المعالي بما وهب الله من العقل، الداعي إلى كل خير، الناهي عن كل ضير، فإن كل أحد من طفل وغيره يكره أن يفعل معه شيء من هذه المنهيات، فمن كان له عقل واعتبر بعقله علم أن غيره يكره منه ما يكره هو منه، ويعلم أنه إن لم يكف عن فعل ما يكره أخوه وقع التشاجر، فيحصل الفساد المؤدي إلى خراب الأرض، هذا في الفعل مع أمثاله من المخلوقين، فكيف بالخالق بأن يصفه بما لا يليق به سبحانه، وعز اسمه، وتعالى جده، وعظم أمره‏!‏‏.‏

ولما تقررت هذه الجمل التي جمعت- بجمعها للمأمورات والمنهيات ما تضيق عنه الدفاتر والصدور، وشهد لها المعاندون من بلغاء العرب أنها بلغت قاموس البحر وتعالت عن طوق البشر، عطف على ما أفهمه السياق- من نحو‏:‏ فتذكروا أو فالزموا ما أمرتم به ونابذوا ما نهيتم عنه- بعض ما أجملته، وبدأ بما هو مع جمعه أهم وهو الوفاء بالعهد الذي يفهم منه العلماء بالله ما دل عليه العقل من الحجج القاطعة بالتوحيد وصدق الرسل ووجوب اتباعهم، فكانت أعظم العهود، ويفهم منه غيرهم ما يتعارفونه مما يجري بينهم من المواثيق، فإذا ساروا فيها بما أمر سبحانه وتحروا رضاه علماً منهم بأنه العدل، قادهم ذلك إلى رتبة الأولين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأوفوا‏}‏ أي أوقعوا الوفاء الذي لا وفاء في الحقيقة غيره ‏{‏بعهد الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي عاهدكم عليه بأدلة العقل والنقل من التوحيد وغيره من أصول الدين وفروعه

‏{‏الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 20‏]‏ ‏{‏وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 27‏]‏ ‏{‏إذا عاهدتم‏}‏ بتقبلكم له بإذعانكم لأمثاله من الأدلة فيما عرف من عوائدكم، وصرحتم به عند شدائدكم ‏{‏ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون‏}‏ ثم عطف عليه ما هو من جنسه وأخص منه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان‏}‏ واحترز عن لغو اليمين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعد توكيدها‏}‏ وحذف الجار لأن المنهي عنه إنما هو استغراق زمان البعد بالنقض، وذلك لا يكون إلا بالكذب الشامل له كله، بعضه بالقوة وبعضه بالفعل، ولعله جمع إشارة إلى أن المذموم استهانتها من غير توقف على كفارة، لأن من فعل ذلك ولو في واحدة كان فاعلاً ذلك في الجميع، بخلاف من ينقض ما نقضه خير بالكفارة فإنه ناقض للبعض لا للكل، لأنه دائر مع الخير والأول دائر مع الهوى؛ ثم حذرهم من النقض بأنه مطلع قادر، فقال تعالى مقبحاً حالهم إذ ذاك‏:‏ ‏{‏وقد جعلتم الله‏}‏ أي الذي له العظمة كلها ‏{‏عليكم كفيلاً‏}‏ أي شاهداً ورقيباً‏.‏

ولما كان من شأن الرقيب حفظ أحوال من يراقبه، قال تعالى مرغباً مرهباً‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏يعلم ما تفعلون *‏}‏ فلم تفعلوا شيئاً إلا بمشيئته وقدرته، فكانت كفالته مجعولة بهذا الاعتبار وإن لم يصرح بالجعل، فمتى نقضتم فعل بكم فعل الكفيل القادر بالمكفول المماطل من أحد الحق والعقوبة‏.‏

ولما أمر بالوفاء ونهى عن النقض، شرع في تأكيد وجوب الوفاء وتحريم النقض وتقبيحه تنفيراً منه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا‏}‏ أي في نقضكم لهذا الأمر المعنوي ‏{‏كالتي نقضت غزلها‏}‏ ولما كان النقض لم يستغرق زمان البعد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏من بعد قوة‏}‏ عظيمة حصلت له ‏{‏أنكاثاً‏}‏ أي أنقاضاً، جمع نكث وهو كل شيء نقض بعد الفتل سواء كان حبلاً أو غزلاً، فهو مصدر مجموع من نقضت لأنه بمعنى نكثت، قال في القاموس‏:‏ النكث- بالكسر أن تنقض أخلاق الأكسية لتغزل ثانية‏.‏ فيكون مثل جلست قعوداً، أي فتكونوا بفعلكم ذلك كهذه المرأة التي ضربتم المثل بها في الخرق مع ادعائكم أنه يضرب بأدناكم المثل في العقل، ثم وصل بذلك ما يعرف أنهم أسفه من تلك المرأة بسبب أن ضررها لا يتعداها، وأما الضرر بفعلهم فإنه مفسد لذات البين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏تتخذون‏}‏ أي بتكليف الفطرة الأولى ضد ما تدعو إليه من الوفاء ‏{‏أيمانكم دخلاً‏}‏ أي فيضمحل كونها أيماناً إلى كونها ذريعة إلى الفساد بالخداع والغرور ‏{‏بينكم‏}‏ من حيث إن المحلوف له يطمئن فيفجأه الضرر، ولو كان على حذر لما نيل منه ولا جسر عليه، وكل ما أدخل في الشيء على فساد فهو دخل ‏{‏إن‏}‏ أي تفعلون ذلك بسب أن ‏{‏تكون أمة‏}‏ أي وهي الخادعة أو المخدوعة لأجل سلامتها ‏{‏هي‏}‏ أي خاصة ‏{‏أربى‏}‏ أي أزيد وأعلى ‏{‏من أمة‏}‏ في القوة أو العدد، فإذا وجدت نفاداً لزيادتها غدرت‏.‏

ولما عظم عليهم النقض، وبين أن من أسبابه الزيادة، حذرهم غوائل البطر فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يبلوكم‏}‏ أي يختبركم ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏به‏}‏ أي يعاملكم معاملة المختبر بالأيمان والزيادة ليظهر للناس تمسككم بالوفاء أو انخلاعكم منه اعتماداً على كثرة أنصاركم وقلة أنصار من نقضتم عهده من المؤمنين «أو غيرهم» مع قدرته سبحانه على ما يريد، فيوشك أن يعاقب بالمخالفة فيضعف القوي ويقلل الكثير ‏{‏وليبينن لكم‏}‏ أي إذا تجلى لفصل القضاء ‏{‏يوم القيامة‏}‏ مع هذا كله ‏{‏ما كنتم‏}‏ أي بجبلاتكم ‏{‏فيه تختلفون *‏}‏ فاحذروا يوم العرض على ملك الملوك بحضرة الرؤساء والملوك وجميع المعبودات والكل بحضرته الشماء داخرون، ولديه صاغرون، ومن نوقش الحساب يهلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 102‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏ وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏94‏)‏ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏95‏)‏ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏97‏)‏ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏98‏)‏ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏99‏)‏ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ‏(‏100‏)‏ وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

ولما أمر ونهى، وخوف من العذاب في القيامة، وكان ربما ظن من لا علم له- وهم الأكثر- من كثرة التصريح بالحوالة على القيامة نقص القدرة في هذه الدار، صرح بنفي ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه، أن يجعلكم أمة واحدة لا خلاف بينكم في أصول الدين ولا فروعه ‏{‏لجعلكم أمة واحدة‏}‏ متفقة على أمر واحد لا تؤم غيره، منفياً عنها أسباب الخلاف ‏{‏ولكن‏}‏ لم يشأ ذلك وشاء اختلافكم، فهو ‏{‏يضل من يشاء‏}‏ عدلاً منه، لأنه تام الملك عام الملك ولو كان الذي أضله على أحسن الحالات ‏{‏ويهدي‏}‏ بفضله ‏{‏من يشاء‏}‏ ولو كان على أخس الأحوال، فبذلك يكونون مختلفين في المقاصد، يؤم هذا غير ما يؤمه هذا، فيأتي الخلاف مع تأدية العقل إلى أن الاجتماع خير من الافتراق فالاختلاف مع هذا من قدرته الباهرة‏.‏

ولما تقرر بهذا أن الكل فعله وحده فلا فعل لغيره أصلاً، كان ربما أوقع في الوهم أنه لا حرج على أحد في شيء يفعله بين أن السؤال يكون عن المباشرة ظاهراً على ما يتعارف الناس في إسناد الفعل إلى من ظهر اكتسابه له، فقال تعالى مرغباً مرهباً مؤكداً لإنكارهم البعث عما ينشأ عنه‏:‏ ‏{‏ولتسئلن عما كنتم‏}‏ أي كوناً أنتم مجبولون عليه ‏{‏تعلمون *‏}‏ وإن دق، فيجازي كلاًّ منكم على عمله وإن كان غنياً عن السؤال، فهو بكل شيء عليم‏.‏

ولما بين أن الكذب وما جر إليه أقبح القبائح، وأبعد الأشياء عن المكارم، وكان من أعظم أسباب الخلاف، فكان أمره جديراً بالتأكيد، أعاد الزجر عنه بأبلغ مما مضى بصريح النهي مرهباً مما يترتب على ذلك، فقال معبراً بالافتعال إشارة إلى أن ذلك لا يفعل إلا بعلاج شديد من النفس لأن الفطرة السليمة يشتد نفارها منه‏:‏ ‏{‏ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً‏}‏ أي فساداً ومكراً وداء وخديعة ‏{‏بينكم‏}‏ أي في داخل عقولكم وأجسامكم ‏{‏فتزل‏}‏ أي فيكون ذلك سبباً لأن تزل ‏{‏قدم‏}‏ هي في غاية العظمة بسبب الثبات ‏{‏بعد ثبوتها‏}‏ عن مركزها الذي كانت به من دين أو دنيا، فلا يصير لها قرار فتسقط عن مرتبتها، وزلل القدم تقوله العرب لكل ساقط في ورطة بعد سلامة ‏{‏وتذوقوا السوء‏}‏ مع تلك الزلزلة ‏{‏بما صددتم‏}‏ أي أنفسكم ومنعتم غيركم بأيمانكم التي أردتم بها الإفساد لإخفاء الحق ‏{‏عن سبيل الله‏}‏ أي الملك الأعلى، يتجدد لكم هذا الفعل ما دمتم على هذا الوصف ‏{‏ولكم‏}‏ مع ذلك ‏{‏عذاب عظيم‏}‏ ثابت غير منفك إذا متم على ذلك‏.‏

ولما كان هذا خاصاً بالأيمان، أتبعه النهي عن الخيانة في عموم العهد تأكيداً بعد تأكيد للدلالة على عظيم النقض فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تشتروا‏}‏ أي تكلفوا أنفسكم لجاجاً وتركاً للنظر في العواقب أن تأخذوا وتستبدلوا ‏{‏بعهد الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏ثمناً قليلاً‏}‏ أي من حطام الدنيا وإن كنتم ترونه كثيراً، ثم علل قلته بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما عند الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام من ثواب الدارين ‏{‏هو خير لكم‏}‏ ولا يعدل عن الخير إلى ما دونه إلا لجوج ناقص العقل؛ ثم شرط علم خيريته بكونهم من ذوي العلم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم‏}‏ أي بجبلاتكم ‏{‏تعلمون *‏}‏ أي ممن يتجدد له علم ولم تكونوا في عداد البهائم، فصار العهد الشامل للأيمان مبدوءاً في هذه الآيات بالأمر بالوفاء به ومختوماً بالنهي عن نقضه، والأيمان التي هي أخص منه وسط بين الأمر والنهي المتعلقين به، فصار الحث عليها على غاية من التأكيد عظيمة ورتبة من التوثيق جليلة، ثم بين خيريته وكثرته بقوله تعالى على سبيل التعليل‏:‏ ‏{‏ما عندكم‏}‏ أي من أعراض الدنيا، وهو الذي تتعاطونه بطباعكم ‏{‏ينفد‏}‏ أي يفنى، فصاحبه منغص العيش أشد ما يكون به اغتباطاً بانقطاعه أو بتجويز انقطاعه إن كان في عداد من يعلم ‏{‏وما عند الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله من الثواب ‏{‏باق‏}‏ فليؤتينكم منه إن ثبتم على عهده؛ ثم لوح بما في ذلك من المشقة عطفاً على هذا المقدر فقال تعالى مؤكداً لأجل تكذيب المكذبين‏:‏ ‏{‏ولنجزين‏}‏ أي الله- على قراءة الجماعة بالياء ونحن- على قراءة ابن كثير وعاصم بالنون التفاتاً إلى التكلم للتعظيم ‏{‏الذين صبروا‏}‏ على الوفاء بما يرضيه من الأوامر والنواهي ‏{‏أجرهم‏}‏ ولما كان كرماء الملوك يوفون الأجور بحسب الأعمال من الأحسن وما دونه، أخبر بأنه يعمد إلى الأحسن فيرفع الكل إليه ويسوي الأدون به فقال‏:‏ ‏{‏بأحسن ما كانوا‏}‏ أي كوناً هو جبلة لهم ‏{‏يعملون *‏}‏‏.‏

ولما وعد بعد أن توعد، أتبعه ما يبين أن ذلك لا يخص شريفاً ولا وضيعاً، وإنما هو دائر مع الوصف الذي رمز إليه فيما مضى بالعدل تارة، وبالعهد أخرى، وهو الإيمان، فقال تعالى جواباً لمن كأنه قال‏:‏ هذا خاص بأحد دون أحد، مرغباً في عموم شرائع الإسلام‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً‏}‏ ولما كانت عامة، وكانت ربما خصت الذكور، بين المراد من عمومها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذكر أو أنثى‏}‏ فعم ثم قيد مشيراً بالإفراد إلى قلة الراسخين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو مؤمن‏}‏‏.‏

ولما كان الإنسان كلما علا في درج الإيمان، كان جديراً بالبلاء والامتحان، بين تعالى أن ذلك لا ينافي سعادته، ولذلك أكد قوله‏:‏ ‏{‏فلنحيينه‏}‏ دفعاً لما يتوهمه المستدرجون بما يعجل لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ‏{‏حياة طيبة‏}‏ أي في الدنيا بما نؤتيه من ثبات القدم، وطهارة الشيم ‏{‏ولنجزينهم‏}‏ كلهم ‏{‏أجرهم‏}‏ في الدنيا والآخرة ‏{‏بأحسن ما كانوا‏}‏ أي كوناً جبلياً ‏{‏يعملون *‏}‏ قال العلماء رضي الله عنهم‏:‏ المطيع في عيشه هنيئة، إن كان موسراً فلا كلام فيه، وإن كان معسراً فبالقناعة والرضى بحكم النفس المطمئنة، والفاجر بالعكس، إن كان معسراً فواضح، وإن كان موسراً فحرصه لا يدعه يتهنأ فهو لا يزال في عيشة ضنك‏.‏

ولما تقررت هذه الأحكام على هذه الوجوه الجليلة، وأشارت بحسن ألفاظها وشرف سياقها إلى أغراض هي مع جلالتها غامضة دقيقة، فلاح بذلك أن القرآن تبيان لكل شيء في حق من سلم من غوائل الهوى وحبائل الشيطان، وختم ذلك بالحث على العمل الصالح، وكان القرآن تلاوة وتفكراً وعملاً بما ضمن أجل الأعمال الصالحة، تسبب عن ذلك الأمر بأنه إذا قرئ هذا القرآن المنزل على مثل تلك الأساليب الفائقة يستعاذ من الشيطان لئلا يحول بوساوسه بين القارئ وبين مثل تلك الأغراض والعمل بها، وحاصله الحث على التدبر وصرف جميع الفكر إلى التفهم والالتجاء إليه تعالى في كل عمل صالح لئلا يفسده الشيطان بوساوسه، أو يحول بين الفهم وبينه، بياناً لقدر الأعمال الصالحة، وحثاً على الإخلاص فيها وتشمير الذيل عند قصدها، لا سيما أفعال القلوب التي هي أغلب ما تقدم هنا، فقال تعالى مخاطباً لأشرف خلقه ليفهم غيره من باب الأولى فيكون أبلغ في حثه وأدعى إلى اتباعه‏:‏ ‏{‏فإذا قرأت‏}‏ أي أردت أن تقرأ مثل ‏{‏وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏القرآن‏}‏ الذي هو قوام العمل الصالح والداعي إليه والحاث عليه، مع كونه تبياناً لكل شيء، وهو اسم جنس يشمل القليل منه والكثير ‏{‏فاستعذ‏}‏ أي إن شئت جهراً وإن شئت سراً؛ قال الإمام الشافعي‏:‏ والإسرار أولى في الصلاة، وفي قول‏:‏ يجهر كما يفعل خارج الصلاة‏.‏ ‏{‏بالله‏}‏ أي سل الذي له الكمال كله أن يعيذك ‏{‏من الشيطان‏}‏ أي المحترق باللعنة ‏{‏الرجيم *‏}‏ أي المطرود عن الرحمة من أن يصدك بوساوسه عن اتباعه، فإنه لا عائق عن الإذعان، لأساليبه الحسان، إلا خذلان الرحمن، بوساوس الشيطان، فقل‏:‏ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لأن ذلك أوفق للقرآن، وقد ورد به بعض الأخبار عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً وهو المشهور ونص عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه، والصارف لهذا الأمر عن الوجوب أحاديث كثيرة فيها القراءة بدون ذكر تعوذ كحديث البخاري وغيره «عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال له ما منعك أن تجيبني‏؟‏ قال‏:‏ كنت أصلي، قال‏:‏ ألم يقل الله‏:‏ ‏{‏استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 24‏]‏ ثم قال‏:‏ لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏» وفي رواية الموطأ «أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم نادى أبياً وأنه قال‏:‏ كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة‏؟‏ قال أبي‏:‏ فقرأت ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏ حتى أتيت على آخرها»

ومن طالع كتابي «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور» رأى مثل هذا أحاديث جداً من أحسنها حديث نزول سورة الكوثر، وقيل‏:‏ التعوذ بعد القراءة لظاهر الآية، وختام القرآن بالمعوذتين موافق لهذا القول بالنسبة إلى الحال، والقول الأول الصحيح بالنسبة إلى ما ندب إليه المرتحل من قراءة الفاتحة وأول البقرة‏.‏

ولما كان ذلك ربما هو أوهم تعظيمه، نفى ذلك بقوله جواباً لمن كأنه قال‏:‏ هل له سلطان‏؟‏‏:‏ ‏{‏إنه ليس له سلطان‏}‏ أي بحيث لا يقدر المسلط عليه على الانفكاك عنه ‏{‏على الذين ءامنوا‏}‏ بتوفيق ربهم لهم ‏{‏وعلى ربهم‏}‏ أي وحده ‏{‏يتوكلون *‏}‏ ويجوز أن يكون المعنى أنه لما تقرر في الأذهان أنه لا نجاة من الشيطان، لأنه سلط علينا بأنه يرانا من حيث لا نراه ويجري فينا مجرى الدم، وكانت فائدة الاستعاذة الإعاذة، أشير إلى حصولها بقوله على سبيل التعليل «إنه» أي استعذ بالله يعذك منه، لأنه ليس له سلطان على الذين آمنوا بالله ليردهم كلهم عما يرضي الله، وعلى ربهم وحده يتوكلون، ثم وصل بذلك ما أفهمه من أن له سلطاناً على غيرهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما سلطانه‏}‏ أي الذي يتمكن به غاية التمكن بإمكان الله له ‏{‏على الذين يتولونه‏}‏ أي تولوه وأصروا على ذلك بتجديد ولايته كل حين ‏{‏والذين هم‏}‏ أي بظواهرهم وبواطنهم ‏{‏به‏}‏ أي بالشيطان ‏{‏مشركون *‏}‏ دائماً لأنهم إذا تبعوا وساوسه، وأطاعوا أوامره فقد عبدوه فجعلوه بذلك شريكاً، فهم لا يتأملون دقائق القرآن بل ولا يفهمون ظواهره على ما هي عليه لما أعماهم به الشيطان من وساوسه، وحبسهم به عن هذه الأساليب من محابسه، فهم لا يزالون يطعنون فيه بقلوب عمية وألسنة بذية؛ ثم عطف على هذا المقدر- الذي دل عليه الكلام- ما أنتجه تسلط الشيطان عليهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا بدلنا‏}‏ أي بعظمتنا بالنسخ ‏{‏ءاية‏}‏ سهلة كالعدة بأربعة أشهر وعشر، وقتال الواحد من المسلمين لاثنين من الكفار، أو شاقّة كتحريم الخمر وإيجاب صلوات خمس، فجعلناها ‏{‏مكان ءاية‏}‏ شاقة كالعدة بحول، ومصابرة عشرة من الكفار، أو سهلة كالآيات المتضمنة لإباحة الخمر وإيجاب ركعتين أول النهار وركعتين آخره، فكانت الثانية مكان الأولى وبدلاً منها، أو يكون المعنى‏:‏ نسخنا آية صعبة فجعلنا مكانها آية سهلة؛ والتبديل‏:‏ رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الشاملة ‏{‏أعلم بما ينزل‏}‏ من المصالح بحسب الأوقات والأحوال بنسخ أو بغيره ‏{‏قالوا‏}‏ أي الكفار ‏{‏إنما أنت‏}‏ أي يا محمد‏!‏ ‏{‏مفتر‏}‏ أي فإنك تأمر اليوم بشيء وغداً تنهى عنه وتأمر بضده، وليس الأمر كما قالوا ‏{‏بل أكثرهم‏}‏ وهم الذين يستمرون على الكفر ‏{‏لا يعلمون *‏}‏ أي لا يتجدد لهم علم، بل هم في عداد البهائم، لعدم انتفاعهم بما وهبهم الله من العقول، لانهماكهم في اتباع الشيطان، حتى زلت أقدامهم في هذا الأمر الواضح بعد إقامة البرهان بالإعجاز على أن كل ما كان معجزاً كان من عند الله، سواء كان ناسخاً أو منسوخاً أو لا، فصارت معرفة أن هذا القرآن وهذا غير قرآن بعرضه على هذا البرهان من أوضح الأمور وأسهلها تناولاً لمن أراد ذلك منهم أو من غيرهم من فرسان البلاغة فكأنه قيل‏:‏ فما أقول‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لمن واجهك بذلك منهم‏:‏ ‏{‏نزله‏}‏ أي القرآن بحسب التدريج لأجل اتباع المصالح لإحاطة علم المتكلم به ‏{‏روح القدس‏}‏ الذي هو روح كله، ليس فيه داعٍ إلى هوى، فكيف يتوهم فيما ينزله افتراء لا سيما مع إضافته الطهر البالغ، فهو ينزله ‏{‏من ربك‏}‏ أيها المخاطب الذي أحسن إليك بإنزاله ثم بتبديله بحسب المصالح كما أحسن تربيتك بالنقل من حال إلى حال لا يصلح في واحدة منها ما يصلح في غيرها من الظهر إلى البطن، ثم من الرضاع إلى الفطام، فما بعده، فكيف تنكر تبديل الأحكام للمصالح ولا تنكر تبديل الأحوال لذلك، حال كون ذلك الإنزال ‏{‏بالحق‏}‏ أي الأمر الثابت الذي جل عن دعوى الافتراء بأنه لا يستطاع نقضه ‏{‏ليثبت‏}‏ أي تثبيتاً عظيماً ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ في دينهم بما يرون من إعجاز البدل والمبدل مع تضاد الأحكام، وما فيه من الحكم والمصالح بحسب تلك الأحوال- مع ما كان في المنسوخ من مثل ذلك بحسب الأحوال السالفة- وليتمرنوا على حسن الانقياد، ويعلم بسرعة انقيادهم في ترك الألف تمام استسلامهم وخلوصهم عن شوائب الهوى؛ ثم عطف على محل ‏{‏ليثبت‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏وهدى‏}‏ أي بياناً واضحاً ‏{‏وبشرى‏}‏ أي بما فيه من تجدد العهد بالملك الأعلى وتردد الرسول بينه وبينهم بوساطة نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ‏{‏للمسلمين *‏}‏ المنقادين المبرئين من الكبر الطامس للأفهام، المعمي للأحلام، ولولا مثل هذه الفوائد لفاتت حكمة تنجيمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 107‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏103‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏105‏)‏ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏106‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

ولما نقض شبهتهم هذه إشارة وعبارة بما فضحهم، نقض لهم شبهة أخرى بأوضح من ذلك وأفضح فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم‏}‏ أي علماً مستمراً ‏{‏أنهم يقولون‏}‏ أي أيضاً قولاً متكرراً لا يزالون يلهجون به ‏{‏إنما يعلمه بشر‏}‏ وهم يعلمون أن ذلك سفساف من القول؛ ثم استأنف الرد عليهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لسان‏}‏ أي لغة وكلام ‏{‏الذين يلحدون‏}‏ أي يميلون أو يشيرون ‏{‏إليه‏}‏ بإن علمه إياه، مائلين عن القصد جائرين عادلين عن الحق ظالمين ‏{‏أعجمي‏}‏ أي غير لغة العرب، وهو مع ذلك ألكن في النادية غير بين، وهو غلام كان نصرانياً لبعض قريش اختلف في اسمه، وهذا التركيب وضع في لسان العرب للإبهام والإخفاء، ومنه عجم الزبيب- لاستتاره، والعجماء‏:‏ البهيمة- لأنها لا تقدر على أيضاح ما في نفسها، وأما أعجمت الكتاب فهو للإزالة‏.‏ ‏{‏وهذا‏}‏ أي القرآن ‏{‏لسان عربي مبين *‏}‏ أي هو من شدة بيانه مظهر لغيره أنه ذو بيان عظيم، فلو أن المعلم عربي للزمهم أن لا يعجزوا عن الإتيان بمثل ما علم، فكيف وهو أعجمي‏.‏

فلما بانت بهذا فضيحتهم، كان كأنه قيل‏:‏ إن من العجب إقدامهم على مثل هذا العار وهم يدعون النزاهة‏؟‏ فأجاب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين لا يؤمنون‏}‏ أي يصدقون كل تصديق معترفين ‏{‏بآيات الله‏}‏ أي الذي له العظمة كلها ‏{‏لا يهديهم الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق، بل يضلهم عن القصد، فلذلك يأتون بمثل هذه الخرافات فأبشر لمن بالغ في العناد، بسد باب الفهم والسداد‏.‏

ولما كان ربما توهم أنه لكونه هو المضل لا يتوجه اللوم عليهم نفى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب أليم *‏}‏ أي بذلك، لمباشرتهم له مع حجب المراد عنهم وخلق القدرة لهم، إجراء على عوائد بعض الخلق مع بعض‏.‏

ولما زيف شبههم، أثبت لهم ما قذفوه به وهو بريء منه مقصوراً عليهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يفتري‏}‏ أي يتعمد ‏{‏الكذب الذين لا يؤمنون‏}‏ أي لا يتجدد منهم الإيمان ‏{‏بآيات الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله، فإن ردهم لما قام الدليل على أنه حق وعجزوا عنه تعمد منهم للكذب؛ ثم قصر الكذب عليهم فقال‏:‏ ‏{‏وأولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏الكاذبون *‏}‏ أي العريقون في الكذب ظاهراً وباطناً‏.‏

ولما ذكر الذين لا يؤمنون مطلقاً، أتبعهم صنفاً منهم هم أشدهم كفراً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من‏}‏ أي أي مخلوق وقع له أنه ‏{‏كفر بالله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال، بأن قال أو عمل ما يدل على الكفر، ولما كان الكفر كله ضاراً وإن قصر زمنه، أثبت الجار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن بعد إيمانه‏}‏ بالفعل أو بالقوة، لما قام على الإيمان من الأدلة التي أوصلته إلى حد لا يلبس فصار استكباره عن الإيمان ارتداداً عنه وجوب الشرط دل ما قبله وما بعده على أنه‏:‏ فهو الكاذب، أو فعليه غضب من الله ‏{‏إلا من أكره‏}‏ أي وقع إكراهه على قول كلمة الكفر ‏{‏وقلبه‏}‏ أي والحال أن قلبه ‏{‏مطمئن بالإيمان‏}‏ فلا شيء عليه، وأجمعوا- مع إباحة ذلك له- أنه لا يجب عليه التكلم بالكفر، بل إن ثبت كان ذلك أرفع درجة، والآية

«نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه أكرهوه فتابعهم وهو كاره، فأخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه كفر، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ كلا‏!‏ إن عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمسح عينيه ويقول‏:‏ إن عادوا فعد لهم بمثل ما قلت» ‏{‏ولكن من شرح‏}‏ أي فتح فتحاً صار يرشح به ‏{‏بالكفر صدراً‏}‏ أي منه أو من غيره بالتسبب فيه لأن حقيقة الإيمان والكفر يتعلق بالقلب دون اللسان، وإنما اللسان معبر وترجمان معرف بما في القلب لتوقع الأحكام الظاهرة ‏{‏فعليهم‏}‏ لرضاهم به ‏{‏غضب‏}‏ أي غضب؛ ثم بين جهة عظمه بكونه ‏{‏من الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏ولهم‏}‏ أي بظواهرهم وبواطنهم ‏{‏عذاب عظيم *‏}‏ لارتدادهم على أعقابهم‏.‏

ولما كان من يرجع إلى الظلمات بعد خروجه منها إلى النور جديراً بالتعجب منه، كان كأنه قيل‏:‏ لم يفعلون، أو لم يفعل بهم ذلك‏؟‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ الارتداد أو الوعيد العظيم ‏{‏بأنهم‏}‏ أي بسبب أنهم ‏{‏استحبوا‏}‏ أي أحبوا حباً عظيماً ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏ أي الدنيئة الحاضرة الفانية، فآثروها ‏{‏على الآخرة‏}‏ الباقية الفاخرة لأنهم رأوا ما فيه المؤمن من الضيق والكافر من السعة ‏{‏و‏}‏ بسبب ‏{‏أن الله‏}‏ أي الملك الذي له الغنى الأكبر ‏{‏لا يهدي القوم الكافرين *‏}‏ الذين علم استمرارهم عليه، بل يخذلهم ويسلط الشيطان عليهم يحتالهم عن دينهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 110‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏108‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏109‏)‏ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

ولما كان استمرارهم على الكفر أعجب من ارتدادهم، أتبعه سببه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء ‏{‏الذين طبع‏}‏ أي ختم ختماً هو كفيل بالعطب ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الذي لا أمر لأحد معه ‏{‏على قلوبهم‏}‏ ولما كان التفاوت في السمع نادراً، وحده فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وسمعهم وأبصارهم‏}‏ فصاروا- لعدم انتفاعهم بهذه المشاعر- كأنهم لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ‏{‏وأولئك‏}‏ أي الأباعد من كل خير ‏{‏هم الغافلون *‏}‏ أي الكاملو الغفلة؛ ثم أتبع ذلك جزاءهم عليه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لا جرم‏}‏ أي لا شك ‏{‏أنهم في الآخرة هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏الخاسرون *‏}‏ أي أكمل خسارة لأنهم خسروا رأس المال وهو نفوسهم، فلم يكن لهم مرجع يرجعون إليه‏.‏

ولما قدم الفاتن والمفتون، أتبع ذلك ذكر حكمهما على القراءتين فقال تعالى‏:‏ بحرف التراخي إشارة إلى تقاصر رتبتهما عن رتبة من لم يفعل ذلك‏:‏ ‏{‏ثم إن ربك‏}‏ أي المحسن إليك بالعفو عن أمتك وتخفيف الآصار عنهم في قبول توبة من ارتد بلسانه أو قلبه ‏{‏للذين هاجروا‏}‏ أهل الكفر بالنزوح من بلادهم توبة إلى الله تعالى مما كانوا فيه‏.‏

ولما كان سبحانه يقبل اليسير من العمل في أي وقت كان، أشار إلى ذلك بالجار فقال تعالى مبيناً أن الفتنة بالأذى- وإن كان بالغاً- غير قادحة في الهجرة وما تبعها، فيفيد ذلك في الهجرة بدونها من باب الأولى ‏{‏من بعد ما فتنوا‏}‏ بالبناء للمجهول- على قراءة الجماعة، لأن المضر هو الفتنة مطلقاً، وللفاعل على قراءة ابن عامر، أي ظلموا بأن فتنوا من آمن بالله حين كانوا كفاراً، أو أعطوا الفتنة من أنفسهم ففتنوها بأن أطاعوا في كلمة الكفر، أو في الرجوع مع من ردهم إلى بلاد الكفر بعد الهجرة من بعد إيمانهم ‏{‏ثم جاهدوا‏}‏ أي أوقعوا جهاد الكفار مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم توبة إلى الله تعالى ‏{‏وصبروا‏}‏ على ذلك إلى أن ماتوا عليه ‏{‏إن ربك‏}‏ أي المحسن إليك بتسخير من هذه صفاتهم لك‏.‏

ولما كان له سبحانه أن يغفر الذنوب كلها ما عدا الشرك، وأن يعذب عليها كلها وعلى بعضها، وأن يقبل الصالح كله، وأن يرد بعضه، أشار إلى ذلك بالجار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من بعدها‏}‏ أي هذه الأفعال الصالحة الواقعة بعد تلك الفاسدة وهي الفتنة ‏{‏لغفور‏}‏ أي بليغ المحو للذنوب ‏{‏رحيم *‏}‏ أي بليغ الإكرام فهو يغفر لهم ويرحمهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 113‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏111‏)‏ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏112‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

ولما تقدم كثير من التحذير والتبشير، وتقدم أنه لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون، وختم ذلك بانحصار الخسار في الكفار، بيَّن اليوم الذي تظهر فيه تلك الآثار، ووصفه بغير الوصف المقدم باعتبار المواقف، فقال تعالى مبدلاً من ‏{‏يوم نبعث من كل أمة شهيداً‏}‏ ‏{‏يوم تأتي‏}‏ أي فيه ‏{‏كل نفس‏}‏ أي إنسان وإن عظم جرمها ‏{‏تجادل‏}‏ أي تعتذر، وعبر بالمجادلة إفهاماً للذفع بأقصى ما تقدر عليه، وأظهر في قوله‏:‏ ‏{‏عن نفسها‏}‏ أي ذاتها بمفردها لا يهمها غير ذلك لما يوهم الإضمار من أن كل أحد يجادل عن جميع الأنفس‏.‏ ولما كان مطلق الجزاء مخوفاً مقلقاً، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏وتوفَّى كل نفس‏}‏ صالحة وغير صالحة ‏{‏ما عملت‏}‏ أي جزاء من جنسه ‏{‏وهم‏}‏ ولما كان المرهوب مطلق الظلم، وكان البناء للمفعول أبلغ جزاء في نفيه قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يظلمون *‏}‏ أي لا يتجدد عليهم ظلم لا ظاهراً ولا باطناً، ليعلم بإبدال «يوم» من ذلك المتقدم أن الخسارة بإقامة الحق عليهم لا بمجرد إسكاتهم‏.‏

ولما عقب سبحانه ما ضرب سابقاً من الأمثال بقوله تعالى ‏{‏ورزقكم من الطيبات‏}‏ وتلاه بذكر الساعة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أمر الساعة‏}‏ إلى آخره، واستمر فيما مضت مناسباته آخذاً بعضه بحجز بعض حتى ختم بالساعة وآمن من الظلم فيها، وبين أن الأعمال هناك هي مناط الجزاء، عطف على ما مضى- من الأمثال المفروضة المقدرة المرغبة- مثلاً محسوساً موجوداً، مبيناً أن الأعمال في هذه الدار أيضاً مناط الجزاء، مرهباً من المعاجلة فيها بسوط من العذاب فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وضرب الله‏}‏ أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لكم أيها المعاندون‏!‏ ‏{‏مثلاً قرية‏}‏ من قرى الماضين التي تعرفونها كقرية هود أو صالح أو لوط أو شعيب عليهم السلام كان حالها كحالهم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها مكة ‏{‏كانت ءامنة‏}‏ أي ذات أمن يأمن به أهلها في زمن الخوف ‏{‏مطمئنة‏}‏ أي تارة بأهلها، لا يحتاجون فيها إلى نجعة وانتقال بسبب زيادة الأمن بكثرة العدد وقوة المدد، وكف الله الناس عنها، ووجود ما يحتاج إليه أهلها ‏{‏يأتيها‏}‏ أي على سبيل التجدد والاستمرار ‏{‏رزقها رغداً‏}‏ أي واسعاً طيباً ‏{‏من كل مكان‏}‏ براً وبحراً بتيسير الله تعالى لهم ذلك‏.‏

ولما كانت السعة تجر إلى البطر غالباً، نبه تعالى لهم ذلك بالفاء فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فكفرت‏}‏ ونبه سبحانه على سعة فضله بجمع القلة الدال على أن كثرة فضلة عليهم تافهة بالنسبة إلى ما عنده سبحانه وتعالى فقال‏:‏ ‏{‏بأنعم الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله كما كفرتم ‏{‏فأذاقها الله‏}‏ أي المحيط بكل شيئ قدرة وعلماً ‏{‏لباس الجوع‏}‏ بعد رغد العيش ‏{‏والخوف‏}‏ بعد الأمن والطمأنينة حتى صار لهم ذلك بشموله لهم لباساً، وبشدة عركهم ذواقاً، فكأن النظر إلى المستعار له، وهو هنا أبلغ لدلالته على الإحاطة والذوق، ولو نظر إلى المستعار لقال‏:‏ فكساها، فكان يفوت الذوق، وذلك كما نظر إليه كثيّر في قوله‏:‏

غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً *** غلقت لضحكته رقاب المال

استعار الرداء للمعروف لأنه يصون صون الرداء لما يلقى عليه، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال، لا وصف الرداء الذي هو المستعار، ولو نظر إليه لوصفه بالسعة أو الطول مثلاً كما نظر إليه من قال ذاكراً السيف الذي يصون به الإنسان نفسه‏:‏

ينازعني ردائي عبد عمرو *** رويدك يا أخا بكر بن عمرو

لي الشطر الذي ملكت يميني *** ودونك فاعتجر منه بشطر

فنظر إلى المستعار وهو الرداء في لفظ الاعتجار، فبانت فضيحة ابن الراوندي في زندقته إذ قال لابن الأعرابي‏:‏ هل يذاق اللباس‏؟‏ فقال له‏:‏ لا بأس يا أيها النسناس‏!‏ هب أن محمداً ما كان نبياً، أما كان عربياً‏؟‏ ‏{‏بما كانوا‏}‏ أي بجبلاتهم ‏{‏يصنعون *‏}‏ من الكفر والكبر، قد مرنوا عليه بكثرة المداومة مرون الإنسان على صنعته‏.‏

ولما كان تعالى لا يعذب حتى يبعث رسولاً، حقق ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جاءهم‏}‏ أي أهل هذه القرية ‏{‏رسول منهم‏}‏ كما وقع لكم ‏{‏فكذبوه‏}‏ كما فعلتم ‏{‏فأخذهم العذاب‏}‏ كما سمعتم، وإن كان المراد بها مكة فالمراد به الجوع الذي دعا عليهم به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما قال «اللهم أعني بسبع كسبع يوسف» وأما الخوف فما كان من جهاد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لهم ‏{‏وهم ظالمون *‏}‏ أي عريقون في وضع الأشياء في غير مواضعها، لأنهم استمروا على كفرهم مع الجوع، وسألوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الإغاثة فدعا لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 115‏]‏

‏{‏فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏114‏)‏ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏

ولما تقرر بما مضى من أدلة التوحيد، فثبت ثباتاً لا يتطرق إليه شك أن الله هو الإله وحده كما أنه هو الرازق وحده، ونبههم على دقائق في تقديره للأرزاق تدل على عظمته وشمول علمه وقدرته واختياره، فثبت أنهم ظالمون فيما جعلوا للأصنام من رزقه، وأنه ليس لأحد أن يتحرك إلا بأمره سبحانه، وختم ذلك بهذا المثل المحذر من كفران النعم، عقبه بقوله تعالى صاداً لهم عن أفعال الجاهلية‏:‏ ‏{‏فكلوا‏}‏ أي فتسبب عن جميع ما مضى أن يقال لهم‏:‏ كلوا ‏{‏مما رزقكم الله‏}‏ أي الذي له الجلال والجمال مما عده لكم في هذه السورة وغيرها، حال كونه ‏{‏حلالاً طيباً‏}‏ أي لا شبهة فيه ولا مانع بوجه ‏{‏واشكروا نعمت الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال حذراً من أن يحل بكم ما أحل بالقرية الممثل بها ‏{‏إن كنتم إياه‏}‏ أي وحده ‏{‏تعبدون *‏}‏ كما اقتضته هذه الأدلة، لأن وحده هو الذي يرزقكم وإلا عاجلكم بالعقوبة لأنه ليس بعد العناد عن البيان إلا الانتقام، فصار الكلام في الرزق والتقريع على عدم الشكر مكتنفاً الأمثال قبل وبعد‏.‏

ولما كان الإذن إنما هو في بعض الرزق في الحال المذكور فاحتيج إلى معرفته، وكانت المباحات أكثر من المحظورات، حصر القليل ليعلم منه الكثير، لأن كل ضدين معروفين إجمالاً عُين أحدهما، عرف من تعيينه الآخر، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما حرم‏}‏ أي الله الذي لا أمر لأحد معه ‏{‏عليكم الميتة‏}‏ التي بينت على لسان الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنها ميتة وإن ذكيت ‏{‏والدم ولحم الخنزير‏}‏ خصه بالذكر بعد دخوله في الميتة لاتخاذ النصارى أكله كالدين ‏{‏وما أهل‏}‏ أي بأيّ إهلال كان من أي مهل كان‏.‏ ولما كان مقصود السورة لبيان الكمال، كان تقديم غيره لتقبيح حال المعتنى به أولى فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لغير الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا ملك سواه ‏{‏به‏}‏‏.‏

ولما كان الإنسان قد يضطر إلى أكل كلّ ما يمكن أكله، بين لهم أنه رفق بهم فأباح لهم سد الرمق من الحرام فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اضطر‏}‏ أي كيفما وقع له الاضطرار ‏{‏غير باغ‏}‏ على مضطر آخر ‏{‏ولا عاد‏}‏ سدَّ الرمق‏.‏

ولما كان الإذن في الأكل من هذه الأشياء حال الضرورة إنما هو رخصة، وكانت الشهوة داعية إلى ما فوق المأذون فيه قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن الله‏}‏ أي المختص بصفات الكمال، بسبب تناوله منها على ما حده ‏{‏غفور رحيم *‏}‏ فمن زاد على ما أذن له فيه فهو جدير بالانتقام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 119‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏116‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏117‏)‏ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏118‏)‏ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏119‏)‏‏}‏

ولما تبين بهذه الآية- كما مضى تقريره في الأنعام- جميع المحرم أكله من الحيوانات، فعلم بذلك جهلهم فيما حرموه على أنفسهم لأجل أصنامهم، صرح بالنهي عنه إبلاغاً في تأكيد ذلك الحصر فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا‏}‏ أي بوجه من الوجوه في وقت ما‏.‏

ولما كان تحليلهم وتحريمهم قولاً فارغاً ليس له حقيقة أصلاً، لأنه لا دليل عليه، عبر عنه بأنه وصف باللسان لا يستحق أن يدخل إلى القلب فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لما تصف‏}‏ أي لأجل الذي تصفه ‏{‏ألسنتكم‏}‏ أي من الأنعام والحروث والزروع‏.‏ ولما حرك النفس إلى معرفة ما يقال لأجل ذلك، بين مقول ذلك القول فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الكذب‏}‏ أي القول الذي هو عين الكذب‏.‏

ولما اشتد التشوف إلى تعيين ذلك المقول، أبدل منه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏هذا حلال وهذا حرام‏}‏ ويجوز أن يكون ‏{‏الكذب‏}‏ مفعول ‏{‏تصف‏}‏ فتكون ‏{‏ما‏}‏ مصدرية، أي لوصفها إياه، فكأن حقيقة الكذب كانت مجهولة فلم تعرف إلا بوصف ألسنتهم لها، فهو مبالغة في وصف كلامهم بالكذب، وما بعده مقول القول‏.‏

ولما كانوا- كما تقدم يدعون أنهم أعقل الناس، فكان اللائق بهم إرخاءً للعنان النسبة إلى معرفة اللوازم عند الإقدام على الملزومات، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لتفتروا على الله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏الكذب‏}‏ لأن من قال على أحد ما لم يأذن فيه كان قوله كذباً، وكان كذبه لقصد افتراء الكذب، وإلا لكان في غاية الجهل، فدار أمرهم في مثل هذا بين الغباوة المفرطة أو قصد ما لا يقصده عاقل، وهذا باب من التهكم عجيب، فكأنه قيل‏:‏ فما يستحقون على ذلك‏؟‏ فأجاب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يفترون‏}‏ أي يقتطعون عمداً ‏{‏على الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏الكذب‏}‏ منكم ومن غيركم ‏{‏لا يفلحون *‏}‏‏.‏

ولما كان الفلاح عندهم هو العيش الواسع في هذه الدنيا، أجاب من كأنه قال‏:‏ فإنا ننظرهم بنعمة ورفاهة‏؟‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏متاع قليل‏}‏ أي ما هم فيه لفنائه وإن امتد ألف عام ‏{‏ولهم‏}‏ بعده ‏{‏عذاب أليم *‏}‏ ومن ألمه العظيم دوامه فأيّ متاع هذا‏.‏

ولما بين لهم نعمته بتوسعته عليهم بما ضيقوا به على أنفسهم، بين لهم نعمة أخرى بتمييزهم على بني إسرائيل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا‏}‏ أي اليهود ‏{‏حرمنا‏}‏ أي بعظمتنا عقوبة لهم بعدوانهم وكذبهم على ربهم ‏{‏ما قصصنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة التي كان المقصوص بها معجزاً ‏{‏عليك‏}‏‏.‏

ولما لم يكن قص ذلك عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم مستغرقاً زمان القبل، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي في الأنعام ‏{‏وما ظلمناهم‏}‏ أي الذين وقع منهم الهود بتحريمنا عليهم ما حرمنا ‏{‏ولكن كانوا‏}‏ أي دائماً طبعاً لهم وخلقاً مستمراً ‏{‏أنفسهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏يظلمون *‏}‏ أي بالبغي والكفر، فضيقنا عليهم معاملة بالعدل، وعاملناكم أنتم حيث ظلمتم بالفضل، فاشكروا النعمة واحذروا غوائل النقمة‏.‏

ولما بين هذه النعمة الدنيوية عطف عليها نعمة هي أكبر منها جداً، استجلاباً لكل ظالم، وبين عظمتها بحرف التراخي فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إن ربك‏}‏ أي المحسن إليك ‏{‏للذين عملوا السوء‏}‏ وهو كل ما من شأنه أن يسوء، وهو ما لا ينبغي فعله ‏{‏بجهالة‏}‏ كما عملتم وإن عظم فعلهم وتفاحش جهلهم ‏{‏ثم تابوا‏}‏‏.‏

ولما كان سبحانه يقبل اليسير من العمل، أدخل الجار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ أي الذنب ول كان عظيماً، فاقتصروا على ما أذن فيه خالقهم ‏{‏وأصلحوا‏}‏ بالاستمرار على ذلك ‏{‏إن ربك‏}‏ أي المحسن إليك بتسهيل دينك وتيسيره‏.‏ ولما كان إنما يغفر بعد التوبة ما عدا الشرك الواقع بعدها، أدخل الجار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من بعدها‏}‏ أي التوبة وما تقدمها من أعمال السوء ‏{‏لغفور‏}‏ أي بليغ الستر لما عملوا من السوء ‏{‏رحيم *‏}‏ أي محسن بالإكرام فضلاً ونعمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 124‏]‏

‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏120‏)‏ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏121‏)‏ وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏122‏)‏ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏123‏)‏ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

ولما دعاهم إلى مكارم الأخلاق ونهاهم عن مساوئها بقبوله لمن أقبل إليه وإن عظم جرمه، إجابة لدعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام في قوله ‏{‏فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏ أتبع ذلك ذكره ترغيباً في اتباعه في التوحيد والميل مع الأمر والنهي إقداماً وإحجاماً إن كانوا ممن يتبع الحق أو يقلد الآباء، فقال على سبيل التعليل لما قبله‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم‏}‏ أي أباكم الأعظم إمام الموحدين ‏{‏كان أمة‏}‏ فيه من المنافع الدنيوية والأخروية ما يوجب أن يؤمه ويقصده كل أحد يمكن انتفاعه به ‏{‏قانتاً‏}‏ أي مخلصاً ‏{‏لله‏}‏ أي الملك الذي له الأمر كله ليس فيه شيء من الهوى ‏{‏حنيفاً‏}‏ ميالاً مع الأمر والنهي بنسخ أو بغيره، فكونوا حنفاء أتباعاً للحق، لما قام عليه من الأدلة، واستناناً بأعظم آبائكم‏.‏

ولما كان السياق لإثبات الكمال لإبراهيم عليه السلام، وكانت الأوصاف الثبوتية قريبة المأخذ سريعة الوصول إلى الفهم، وأتى بعدها وصف سلبي بجملة، حذف نون ‏{‏يكن‏}‏ منها إيجازاً وتقريباً للفهم تخفيفاً عليه وحفظاً له من أن يذهب قبل تمامها إلى غير المراد، وإعلاماً بأن الفعل منفي عنه عليه السلام على أبلغ وجوه النفي لا ينسب إليه شيء منه ولو قل، فقيل‏:‏ ‏{‏ولم يك‏}‏ ولما كانوا مشركين هم وكثير من أسلافهم، قبح عليهم ذلك بأن أعظم من يعتقدون عظمته من آبائهم ليس من ذلك القبيل، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من المشركين *‏}‏ الواقفين مع الهوى، فلا تكونوا منهم؛ ثم بين حاله فقال‏:‏ ‏{‏شاكراً‏}‏ ولما كان لله على من جعله أمة من النعم ما لا يحصى، بين أن ذلك كله قليل في جنب فضله، فقال مشيراً إلى ذلك بجمع القلة وإلى أن الشاكر على القليل يشكر إذا أتاه الكثير من باب الأولى‏:‏ ‏{‏لأنعمه‏}‏ فهو لا يزال يزيده من فضله، فتقبل دعاءه لكم فاشكروا الله اقتداء به ليزيدكم، فكأنه قيل‏:‏ فما أثابه على ذلك‏؟‏ أو علل ما قبل، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏اجتباه‏}‏ أي اختاره اختياراً تاماً ‏{‏وهداه‏}‏ أي بالبيان الأعظم والتوفيق الأكمل ‏{‏إلى صراط مستقيم *‏}‏ وهو الحنيفية السمحة، فكان ممن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، وكان مخالفاً للأبكم الموصوف في المثل السابق؛ ثم قال‏:‏ ‏{‏وءاتيناه‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏في الدنيا‏}‏ بلسان الصدق والثناء الجميل الذي ذللنا له ألسنة الخلق ‏{‏حسنة‏}‏ ونبه بالتعبير عن المعطي بنون العظمة على جلالته حيث جعله إماماً معظماً لجميع أهل الملل، فجمع القلوب على محبته، وجعل له فيهم لسان صدق، ورزقه في أولاده من النبوة والصلاح والملك والكثرة ما هو مشهور‏.‏

ولما كانت عظمة الدنيا لا تعتبر إلا مقرونة بنعمة الآخرة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه في الآخرة‏}‏ وقال تعالى-‏:‏ ‏{‏لمن الصالحين *‏}‏ أي له ما لهم من الثواب العظيم- معبراً ب «من» تعظيماً لمقام الصلاح وترغيباً فيه‏.‏

ولما قرر من عظمته في الدنيا والآخرة ما هو داعٍ إلى اتباعه، صرح بالأمر به تنبيهاً على زيادة عظمته بأمر متباعد في الرتبة على سائر النعوت التي أثنى عليه بها، وذلك كونه صار مقتدي لأفضل ولد آدم، مشيراً إلى ذلك بحرف التراخي الدال على علو رتبته بعلو رتبة من أمر باتباعه فيما مهده مما أمر به من التوحيد والطريق الواضح السهل فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏ثم أوحينا‏}‏ أي ثم زدناه تعظيماً وجلالة بأن أوحينا ‏{‏إليك‏}‏ وأنت أشرف الخلق، وفسر الإيحاء بقوله عز وجل ترغيباً في تلقي هذا الوحي أحسن التلقي باقتفاء الأب الأعظم‏:‏ ‏{‏أن اتبع‏}‏ أي بغاية جهدك ونهاية همتك‏.‏

ولما كان المراد أصل الدين وحسن الاقتضاء فيه بسهولة الانقياد والانسلاخ من كل باطل، والدعوة بالرفق مع الصبر، وتكرير الإيراد للدلائل وكل ما يدعوا إليه العقل الصرف والفطرة السليمة، عبر بالملة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ملة إبراهيم‏}‏ ولا بعد في أن يفهم ذلك الهجرة أيضاً‏.‏

ولما كانت الحنيفية أشرف أخلاق إبراهيم عليه السلام، فكانت مقصودة بالذات، صرح بها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏حنيفاً‏}‏ أي الحال كونك أو كونه شديد الانجذاب مع الدليل الحق؛ ورغب العرب في التوحيد ونفرهم من الشرك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏من المشركين *‏}‏ ولما دعا سبحانه فيها إلى معالي الشيم وعدم الاعتراض، وختم بالأمر بالملة الحنيفية التي هي سهولة الانقياد للدليل، وعدم الكون مع الجامدين، اقتداء بالأب الأعظم، وكان الخلاف والعسر مخالفاً لملته، فكان لا يجر إلى خير، وكان من المعلوم أن كل حكم حدث بعده ليس من ملته، وكان اليهود يزعمون جهلاً أنه كان على دينهم، وكان السبت من أعظم شعائرهم، أنتج ذلك قوله تعالى جواباً لمن قد يدعي من اليهود أنه كان على دينهم، وتحذيراً من العقوبة على الاختلاف في الحق بالتشديد في الأمر‏.‏ ‏{‏إنما جعل‏}‏ أي بجعل من لا أمر لغيره ‏{‏السبت‏}‏ أي تحريمه واحترامه أو وباله ‏{‏على الذين اختلفوا فيه‏}‏ حين أمرهم نبيهم بالجمعة فقبل ذلك بعضهم وأراد السبت آخرون، فبدلوا بالجمعة السبت‏.‏ وشدد عليهم في أمره انتقاماً منهم بما تفهمه التعدية ب «على» فكان ذلك وبالاً عليهم، وفي ذلك تذكير بنعمة التيسير علينا؛ قال البغوي؛ قال الكلبي‏:‏ أمرهم موسى عليه السلام بالجمعة فقال‏:‏ تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوماً، فاعبدوه يوم الجمعة، ولا تعملوا فيه عملاً لصنعتكم، وستة أيام لصناعتكم، فأبوا إلا شرذمة منهم وقالوا‏:‏ لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق يوم السبت، فجعل ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم فيه، ثم جاءهم عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقالوا‏:‏ لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، فأخذوا الأحد، فأعطى الله الجمعة هذه الأمة فقبلوها وبورك لهم فيها‏.‏

وقال عبد الرزاق في تفسيره‏:‏ أخبرني معمر أخبرني من سمع مجاهداً يقول في قوله تعالى ‏{‏إنما جعل السبت‏}‏ فقال‏:‏ ردوا الجمعة وأخذوا السبت مكانه‏.‏ وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال‏:‏ «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له‏.‏ فهم لنا فيه تبع، فاليهود غداً والنصارى بعد غد»‏.‏

ولما كان الإشراك واضحاً في أمر النصارى، استغنى بنفيه عنه عن التصريح بأنه ليس على دينهم؛ ثم حذر من الاختلاف مثبتاً أمر البعث فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن ربك‏}‏ أي المحسن إليك بطواعية أصحابك لك ‏{‏ليحكم بينهم‏}‏ أي هؤلاء المختلفين ‏{‏فيه يختلفون *‏}‏ من قبول الجمعة وردها، ومن الإذعان لتحريم الصيد وإبائه وغير ذلك، فيجازى كل فريق منهم بما يستحقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏125- 128‏]‏

‏{‏ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏125‏)‏ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ‏(‏126‏)‏ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏127‏)‏ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

ولما قدم سبحانه في هذه السورة حكاية كثير من استهزائهم بوعده ووعيده، وتكذيبهم لرسله على أبشع وجه، والتفتير عن حرقة الحرص عليهم، المفضي إلى شدة التأسف على ضلالهم وغير ذلك مما ربما أيأس منهم فأقعد عن دعائهم، وأتبعه ضرب الأمثال، ونصب الجدال- على تلك المناهيج المعجزة بما يسبق من ظواهرها إلى الفهم عند قرع السمع من المعاني الجليلة، والمقاصد الجميلة- لعامة الخلق ما يجل عن الوصف، وإذا تأملها الخواص وجدوا فيها من دقائق الحقائق، ومشارع الرقائق، ومحكم الدلائل، ومتقن المقاصد والوسائل، ما يوضح- بتفاوت الأفهام وتباين الأفكار- أنه بحر لا ساحل له ولا قرار، ولا منتهى لما تستخرج منه الأنظار، وختم باتباع الأب الأعظم، لما كان ذلك، وأمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو السميع المطيع أن يستن بآثاره، ويقتدي بإضماره وإظهاره، فسر له تلك الملة التي أمره باتباعها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ادع‏}‏ أي كل من تمكن دعوته ‏{‏إلى سبيل ربك‏}‏ أي المحسن إليك، بتسهيل السبيل الذي تدعو إليه واتساعه، وهو الإسلام الذي هو الملة الحنيفية ‏{‏بالحكمة‏}‏ وهي المعرفة بمراتب الأفعال في الحسن والقبح والصلاح والفساد، وقيل لها حكمة لأنها بمنزلة المانع من الفساد وما لا ينبغي أن يختار، فالحكيم هو العالم بما يمنع من الفساد- قاله الرماني، وهي في الحقيقة الحق الصريح، فمن كان أهلاً له دعا به ‏{‏والموعظة‏}‏ بضرب الأمثال والوعد والوعيد مع خلط الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة ‏{‏الحسنة‏}‏ أي التي يسهل على كل فهم ظاهرها، ويروق كل نحرير ما ضمنته سرائرها، مع اللين في مقصودها وتأديتها هذا لمن لا يحتمل إلا ذلك ‏{‏وجادلهم‏}‏ أي الذين يحتملون ذلك منهم افتلهم عن مذاهبهم الباطلة إلى مذهبك الحق بطريق الحجاج ‏{‏بالتي هي أحسن‏}‏ من الطرق بالترفق واللين والوقار والسكينة، ولا تعرض عنهم يأساً منهم، ولا تجازهم بسيئ مقالهم وقبيح فعالهم صفحاً عنهم ورفقاً بهم، فهو بيان لأصناف الدعوة بحسب عقول المدعوين، لأن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بأن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، وقيل‏:‏ الدعوة إن كانت لتقرير الدين وتثبيت الاعتقاد في قلوب أهله- وهي مع ذلك يقينية مطهرة عن احتمال نقيض- فهي الحكمة وهي لطالب الحق المذعن إن كان مستعداً للقبول بفكره الثاقب، وإن كانت مقارنة لاحتمال النقيض مفيدة للظن والإقناع فهي الموعظة وهي للمذعن الذي لا استعداد له، وإن كانت لإلزام الجاحدين وإفحام المعاندين فهي المجادلة، فإن كانت مركبة من مقدمات مسلمة عند الجمهور أو عند الخصم فقط فهي الحسنة، وإن كانت من مقدمات كاذبة غير مسلمة يراد ترويجها بالحيل الباطلة والطرق الفاسدة فهي السيئة التي لا تليق بمنصف؛ ثم علل الملازمة لدعائهم على هذا الوجه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ربك‏}‏ أي المحسن إليك بالتخفيف عنك ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏أعلم‏}‏ أي من كل من يتوهم فيه علم ‏{‏بمن ضل عن سبيله‏}‏ فكان في أدنى درجات الضلال- وهو أعلم بالضالين الراسخين في الجور عن الطريق- فلا انفكاك له عن الضلال، وهو أعلم بمن اهتدى لسبيله فكان في أدنى درجات الهداية ‏{‏وهو‏}‏ أي خاصة ‏{‏أعلم بالمهتدين *‏}‏ أي الذين هم في النهاية منها، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر أولاً «من ضل» دليلاً على حذف ضده ثانياً، و‏{‏المهتدين‏}‏ ثانياً دليلاً على حذف ضدهم أولاً‏.‏

وأما أنت فلا علم لك بشيء من ذلك إلا بإعلامنا، وقد ألزمناك البلاغ المبين، فلا تفتر عنه معرضاً عن الحرص المهلك واليأس فإنه ليس عليك هداهم‏.‏

ولما بين أمر الدعوة وأوضح طرقها وقدم أمر الهجرة والإكراه في الدين والفتن فيه المشير إلى ما سبب ذلك من المحن والبلاء من الكفار ظلماً، وختم ذلك بالأمر بالرفق بهم، عم- بعد ما خصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم به من الأمر بالرفق، بالأمر لأشياعه بالعدل والإحسان كما تقدم ولو مع أعدى الأعداء، والنهي عن مجازاتهم إلا على وجه العدل- فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن عاقبتم‏}‏ أي كانت لكم عاقبة عليهم تتمكنون فيها من أذاهم ‏{‏فعاقبوا بمثل ما‏}‏ ولما كان الأمر عاماً في كل فعل من المعاقبة من أيّ فاعل كان فلم يتعلق بتعيين الفاعل غرض، بنى للمفعول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عوقبتم به‏}‏ وفي ذلك إشارة- على ما جرت به عوائد الملوك في كلامهم- إلى إدالتهم عليهم وإسلامهم في يديهم، وجعله بأداة الشك إقامة بين الخوف والرجاء‏.‏

ولما أباح لهم درجة العدل، رقاهم إلى رتبة الإحسان بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن صبرتم‏}‏ بالعفو عنهم ‏{‏لهو‏}‏ أي الصبر ‏{‏خير للصابرين *‏}‏ وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً بالوصف‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فاصبروا، عطف عليه إفراداً له صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالأمر، إجلالاً له وتسلية فيما كان سبب نزول الآية من التمثيل بعمه حمزه رضي الله عنه، وتنويهاً بعظم مقام الصبر زيادة في حث الأمة، لأن أمر الرئيس أدعى لامتثال أتباعه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر‏}‏ ثم اتبع ذلك بما يحث على دوام الالتجاء إليه المنتج للمراقبة والفناء عن الأغيار ثم الفناء عن الفناء، لئلا يتوهم أن لأحد فعلاً مستقلاً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما صبرك‏}‏ أي أيها الرسول الأعظم‏!‏ ‏{‏إلا بالله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي شرع لك هذا الشرع الأقوم وأنت قائم في نصره، ولقد قابل هذا الأمر صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأعلى مقامات الصبر، وذلك أنهم مثلوا بقتلى المسلمين في غزوة أحد إلا حنظلة الغسيل رضي الله عنه فإن أباه كان معهم فتركوه له، فلما وقف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على عمه حمزة رضي الله عنه فوجدهم قد جدعوا أنفه وقطعوا أذنيه وجبوا مذاكيره وبقروا بطنه، نظر إلى شيء لم ينظر قط إلى أوجع لقلبه منه فقال‏:‏

«رحمة الله عليك، فإنك كنت فعالاً للخير وصولاً للرحم، ولولا أن تحزن صفيه لسرني أن أدعك حتى تحشر من أجواف شتى، أما والله‏!‏ لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم»، وقال الصحابة رضي الله عنهم‏:‏ لنزيدن على صنيعهم، فلما نزلت الآية بادر صلى الله عليه وعلى آله وسلم الامتثال، وكان لا يخطب خطبة إلا نهى عن المثلة، وأحسن يوم الفتح بأن نهى عن قتالهم بعد أن صاروا في قبضته- صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم دائماً أبداً‏.‏

ولما كان- بعد توطين النفس على الصبر وتفريغ القلب من الأحنة- يرجع إلى الأسف على إهلاكهم أنفسهم بتماديهم على العتو على الله تعالى، قال سبحانه‏:‏ ‏{‏ولا تحزن عليهم‏}‏ أي في شدة كفرهم فتبالغ في الحرص الباخع للنفس‏.‏

ولما كان سبحانه في مقام التبشير، بالمحل الكبير والموطن الخطير، الذي ما حازه قبل نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشير ولا نذير، وذلك هو الإسراء إلى الملكوت الأعلى، والمقام الأسمى من السماوات العلى، في حضرات القدس، ومحال الأنس، ووطأ لذلك في سورة النعم بمقامات الكرم إلى أن قارب الوصول إليه، أوجز في العبارة بحذف حرف مستغنى عنه دلالة عليه فقال‏:‏ ‏{‏ولا تك‏}‏ بحذف النون أشارة إلى ضيق الحالة عن أدنى إطالة‏:‏

وأبرح ما يكون الشوق يوماً *** إذا دنت الديار من الديار

وهذا بخلاف ما يأتي في سورة النمل إن شاء الله تعالى ‏{‏في ضيق‏}‏ ولو قل- كما لوح إليه تنوين التحقير بما يشير إليه حذف النون، فإن أذى الكفار الذي السياق للتسلية عنه لا يضرك في المقصود الذي بعثت لأجله، وهو إظهار الدين وقمع المفسدين بوجه من الوجوه ‏{‏مما يمكرون *‏}‏ أي من استمرار مكرهم بك ‏{‏واعبد ربك حتى يأتيك اليقين‏}‏ وكأنك به، وقد أتى فاصبر فإن الله تعالى معزك ومظهر دينك وإن كرهوا؛ ثم علل ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الجامع لصفات الكمال بلطفه وعونه ‏{‏مع الذين اتقوا‏}‏ أي وجد منهم الخوف من الله تعالى، فكانوا في أول منازل التقوى، وهو مع المتقين الذين كانوا في النهاية منها، فعدلوا في أفعالهم من التوحيد وغيره عملاً بأمر الله في الكتاب الذي هو تبيان لكل شيء، وهو مع الذين أحسنوا وكانوا في أول درجات الإحسان ‏{‏والذين هم‏}‏ أي بضمائرهم وظواهرهم ‏{‏محسنون *‏}‏ أي صار الإحسان صفة لهم غير منفكة عنهم، فهم في حضرات الرحمن، وأنت رأس المتقين المحسنين، فالله معك، ومن كان الله معه كان غالباً، وصفقته رابحة، وحالته صالحة، وأمره عال، وضده في أسوإ الأحوال، فلا تستعجلوا قلقاً كما استعجل الكفار استهزاء، تخلقاً في التأني والحلم بصفة من تنزه عن نقص الاستعجال، وتعالى عن ادعاء الأكفاء والأمثال، فقد عانق آخرها أولها، ووافق مقطعها، وآخرها احتباك‏:‏ ذكر ‏{‏الذين اتقوا‏}‏ أولاً دليلاً على حذف ‏{‏الذين أحسنوا‏}‏ ثانياً، ‏{‏والمحسنين‏}‏ ثانياً دليلاً على حذف المتقين أولاً- والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب‏.‏